قراءة مؤلف مسلسل متكامل هي على نحو ما قراءة تاريخ شعري بالطبع، ولا بد أن هذا يضلّلنا قليلاً عن الشعر أو يجعل القراءة نفسها متعددة. أن نقرأ شعراً ومؤلفاً تاريخياً شعرياً في آن واحد أمر لا تُحمد تقاطعاته ولا تفرعاته بالطبع.
أن نمرحل الشعر وأن نحصي خططه وأن نتابع ما انقطع وما انوصل منها، وأن نردّه إلى أساليب أكبر أو أصغر وإلى وحدات أكبر أو أصغر، وأن نلم شتاته ونجريه في سياقات ووجهات ومشروع واحد.. كل هذا ما نخشى منه على الشعر وهو كما نعلم هش ضعيف سريع العدوى كثير التلوث، طيّارٌ هَروب ولا نأمن من أن نفقده في خرائط عمليات واسعة كهذه.
فالشعر كتاب على نحو غير أكيد، ومؤلف مشتبه من دون ريب، وبناء لا نأمن من أن يكون مزعوماً، ووحدة في الظن، ولا نأمن من أن نفقده، بعضه أو جلّه، في عمليات القطع والربط والجمع والنثر والإعادة والرد. أقول هذا لا من خشية على الشعر الذي قلما يقدر عليه هذا الضبط والجمع، فهو بدوي وقلما يسعنا توظيفه وحصره.
أقول من خشية أن نضيع نحن في صورية مبانينا وأن ننقطع عن ذلك الإحساس الطيّار والجسدي مع ذلك بوجود الشعر.
تحذير في محله أو غير محله، وهو بالطبع تحذير لنفسي أولاً وأخيراً، فأنا من الذين لا يظنون أن الكتابة عن الشعر تصل إلى أبعد منه. إنها في الغالب مثله تمحو آثارها وتتقدم في الفراغ ولا تقوى على تذكّر رحلتها ولا يدوم سحرها، إذ سرعان ما تتحول أضغاث أفكار وأحلام ذكريات. إنها مثله تجد نفسها دائماً على شاطئ البداية وعند السؤال الأول.
ثم إنني أجد أن قراءة الشعر نفسها لا تختلف عنه. إنها تبني وتنسى، بل هي تبقى دائماً أولى. كل قراءة أولى، كل قرءة تسعى لتكون أولى، والأرجح أننا لا نستطيع أن نلتحم بالقصيدة إنْ لم نقرأها بوعي قريب من ذلك الذي نكتبها به، إنْ لم نتركها تبني وتنشئ عالماً لا تلبث أن تنساه وكأنْ لم يكن.
والأرجح أن قراءة كهذه بزخمها وتكاملها لا تعود. هكذا تمحو القصيدة كل أثر بين القراءة والكتابة وتبقى في سر القارئ وسر الشاعر. لا نعجب إذن إذا كانت الكتابة عن الشعر يائسة. لكنها تبقى مع ذلك متعة مخصوصة ونستطيع أن نضيّع فيها الوقت الذي نهدره في قضية لم تتحقق.
لعلّي أطلتُ المراوحة، أو أطلت التلكؤ. أمامي إذن مؤلَفٌ متسلسل متكامل، ست مجموعات لأمجد ناصر، وليس هذا رقماً كبيراً لحياة شعرية بدأت باكرة وتواصلت من دون انقطاع، والأرجح أن قراءة ناصر الأولى تعدّ بسهولةٍ أعرف من مِراسي أنها حذرة وأتوجّس عن حقٍ منها. ففي مؤلف أمجد ناصر ما نهابه. قدرٌ من تواصلٍ يهوّن الأمر على قارئه، فهو يعده بأنه لن يقع في قطائع ولن يضيع الخط.
مجموعات أمجد ناصر تتواصل، تصعد وتهبط وتنعطف بالطبع، لكنها تفضي بنا مع ذلك من كتاب إلى كتاب وعمل إلى عمل. في "مديح لمقهى آخر" العنوان الجميل لديوان أمجد الأول (أفضّل لسبب غير محسوم أن أقول مجموعته) ما يشعر بأن الشاعر وجد قصيدته تقريباً، أو وجد بذور قصيدته تلك من العمل الأول، وأرجّح أن في هذا "وعياً شعرياً" نادراً. تواصل يمكننا أن نعتبره للتسهيل، مشتملاً على قدر من وحدة، إذ لا يؤرقني مصطلح كالوحدة ولا أعرف مصطلحاً محيّراً مضللاً بقدره. للتسهيل، أقول تقرّباً من القارئ ومن ميراثه "النقدي".
في "مديح لمقهى آخر" نجد أمجد ناصر شاعراً يختار من البداية، وأقول يختار، مع التشديد عليها، إذ لم يكن سهلاً أن نختار مع كل ذلك "الإغداق" الشعري القائم آنذاك، ومع كل ذلك الطموح البعيد المدى للشعر والأوهام حول الذات والمشاريع الكبرى الشعرية. لم يكن سهلاً الاختيار حين يرفع الشعر مراهناته ومضارباته إلى حدٍ يستحيل معه تمييز حدوده. في تلك الآونة كان للشعر من الشهية والجشع ما يجعله متطلّعاً إلى أن يحتل اسميّاً كل بقعة تتظاهر فيها الثقافة العربية والواقع العربي، ولنقل إن "مشاريع" الشعر هذه كانت في قدر منها بيانات امتلاكٍ معلن للإنسان بكل دراماه الشخصية والفكرية.
امتلاكٌ سحريٌ للواقع العربي الذي تزعم البيانات أنها أداته الثورية وتمنح لذلك على نحو سريالي للشعريّ والحُلميّ قدرة على خلق وابتعاث وتحويل الواقعي، وامتلاك (ما زلنا بصدد المشاريع الشعرية) الثقافة برمّتها بكل تضاعيفها والتاريخ بكل قوته الأسطورية، ولنقل إن شعر أمجد ناصر أمام عالم من الأَنوات الشعرية المتضخمة.
بهذه الطاقة على الاستبدال والحلول والسحر اختار. اختار في الواقع حيّزاً ضيقاً ومحدوداً بالقياس إلى فقدان الطموح الشعري آنذاك، لا للحدود فحسب بل للبدايات، وكان هذا يقتضي أولاً قدراً من التنحية والتعليق والتجنب والاستبعاد، أي أن الاختيار نفسه كان على نحو ما عملية "نقدية"، إذا جاز القول. وإذا شئنا أن نتوسع كثيراً في ذلك قلنا إن اختيار أمجد ناصر في هذه الفترة مع عدد من شعراء الطور الثاني من القصيدة الجديدة كان اختياراً مجدِّداً لقدرات الشاعر الذي عاد من جديد كائناً عادياً.
لقد غدا الشعر غير قادر على أن يكون هو نفسه محل استقطاب حلولي لكل شيء، وعلى أن يكون على نحو ما الشاعر ــــ الإنسان والشاعر ـــ الإله والشاعر ـــ النبي والشاعر ـــ البطل المضاد والشاعر ـــ الانقلاب والشاعر ـــ الثورة والشاعر ـــ الحداثة والشاعر ـــ القائد ـــ الملهم. لم يعد الشعر قادراً على أن يكون هو نفسه الأمة والتاريخ والثقافة.
الأرجح أن اختيار أمجد ناصر لم يكن محدوداً (بالقياس) أو ضيقاً أو بوعي "نقدي" وبعملية تجنب واختلاف وانسحاب طويلة بحد ذاتها. لذا لم يكن اختياره في ديوانه الأول بديهياً. أما ما اختاره أمجد ناصر فكان في تجنب غناءٍ وإعلاءٍ متطرفين من جهة ودراماتيكية مبالغة من جهة أخرى. لا التغني المستقبلي المتسامي، بما يعني ذلك من تقمّص الآن للأزمنة المفصلية للماضي والمستقبل والعصر بطبيعة الحال، للتاريخ والأمة والقيم العليا بما يعنيه ذلك من اعتبار الشعر تاريخاً مضاداً وطوبى وثقافة ناقصة ورافعة سحرية للحداثة والتجديد، وولادة ثانية وعصراً آخر.
اختيار أمجد ناصر كان من ناحية أخرى في تجنب الأنا الدراماتيكية الهائجة المتوترة والمتشنجة الغارقة في مونولوغها الخاص، المشخّصة على نحو مَرَضي للعالم أو المبتلعة على نحو مرضي للعالم، المتقمصة لأقانيم شيطانية هي: التدمير والاعتراض والنقض. المترادفة بالطبع مع قيم لا تبلغ: الحب والإنسان والشعر. المفترضة ذاتها إنساناً أولاً ومثالاً ضدياً وقوة سرطانية ونقدية كونية. والمانحة للشعر سحر الشر وسحر المرض وسحر التمرد. والمنسحبة بعد ذلك على نحو رومانطيقي للحب والصلاة والشعر.
لنقل إن الأنا البانورامية، سواء كانت ثقافية أو درامية، لم تكن خيار أمجد ناصر الذي بدأ شعره من حيث لا يبقى محل لابتلاع الكون والعالم، بدأ من لحظة متقاطعة، لحظة وجوده الشخصي وغير الشخصي، الذاتي وغير الذاتي. لحظة خروجه وخروج قومه، خروجه من العشيرة الحقيقية أو الوهمية، وخروج قومه من الصحراء الحقيقية أو الخيالية.
لحظة متقاطعة هي في عنصرها الميكروسكوبي لحظة في سيرة، وفي عنصرها الميكروسكوبي لحظة في هجرة جماعية. وفي اللحظة المركبة المتقاطعة هذه ما ليس بالطبع شخصياً بالمطلق. ثمة تركيب من كل هذا في شعر هو نوع من مثول لحظة، سواء أكانت هذه طويلة أم قصيرة.
لكن الشعر ليس زمناً بذاته، فالخيالي الفانتازي هنا ليس لازمنياً. فالزمن هنا، حقيقياً أو متخيلاً مادته، والزمن بطله على نحو ما، وسواء تكلمنا عن صحراء الوهم أو صحراء الذاكرة أو الخيال أو الحقيقة على نحو ما فإن التحول هو الموضوع. التحول الذي هو دائماً لحظة مركبة، الذي هو دائماً انتقالٌ بصريٌ ولغويٌ وعاطفيٌ وفكريٌ بالطبع.
الأرجح أن الانتقال داخل عالم انتقالي هو الذي يعطي لقصيدة أمجد ناصر موضوعها الضمني، إذا كان لذلك أن يكون موضوعاً. ولعل عناوين مجموعاته: منذ جلعاد، وصول الغرباء، رعاة العزلة، مرتقى الأنفاس، إشارات لذاكرة الانتقال أو التحول هذه ومخيلتها وفولكلورها. لنقل إن الانتقال هو أسطورة شعر أـمجد ناصر وحيّزه اللغوي المكاني التخييلي الرجراج المتموج المتحرك على تقاطع أزمنة فعلية.
نعجب بادئ ذي بدء من أن يبدأ فتى في العشرينيات قصيدته من سيرته هو ومن هذا المنعطف في سيرته. نعجب لكننا لا نغفل عن أن تسمية الزمن هذه كانت في شعرنا نوعاً من سند مرجعي لا يصح الكلام من دونه. تتكلم ليس من دون تقديم نفسك وزمنك أولاً، وأحسب أن شعراء الطور الأول من القصيدة الحديثة بدأوا بتقديم أنفسهم وزمنهم على نحو يوازي أسطورتهم.
إنهم من على تقاطع أزمنة فلكية كبرى: لنسمّها الماضي المطلق والعصر في اتجاه مستقبلي. لنسمّها الشرق والغرب ولنسمّها الحداثة، مجرات زمنية لم يكن لأمجد ناصر قِبَلٌ بها. مقابل الزمن الكوسموبوليتي للرواد أو الزمن الفلكي نجد أن شعراء الطور الثاني على جسر اللحظة الانتقالية في جماعاتهم وذواتهم. قدّم نفسك، قدّم زمنك. هذا هو البدء الذي لا بد منه لشاعر عربي. سؤال هوية، أو سؤال نسب أو سؤال اسم. لا يهم، لكنه إلى الآن مرجع لا يبدأ من دونه كلام.
أمجد ناصر التقط من الأول موضوعه وبالتالي قصيدته، أجاب من الديوان الأول وبقي عليه أن يتابع سؤاله وأسطورته في الدواوين التالية. من الواضح أننا نبدأ أيضاً من محل لا يكون إلا كلامياً. الأسطورة الصحراوية مفقودة منذ البداية.
لا نحتاج إلى تاريخ لنعرف ذلك، يكفي أن نقرأ شعر أمجد لنعلم أنها صحراء الخيال والوهم والذاكرة، لنعلم أن لا شيء حقيقياً لدى هؤلاء البدو الذين تحولوا إلى فلاحين وأهل أرياف قبل أن يتحولوا إلى موظفين وشرطة ومهربين، وقبل أن يدخلوا في العاصمة والسلطة سلباً وإيجاباً.
لحظة الصحراء تلك متموجة مختلطة بل هي نفسها ذاكرة عديدة، لكن التحول/ الانتقال هو الذي يسمي حياةً لا تملك اسماً ولا هوية. الانتقال هو الأسطورة المتبدّلة، أسطورة حركةٍ ومسافات وتحولات أكثر مما هي ذات خبرة وحكاية خاصة. إننا على الجسر وعلى الجسر تمر الموضوعات والصور والكلمات، لكن الإيقاع الزمني يبقى نفسه:
"أيّتها الهوادج
أيّتها الهوادج
يا أجراس الصحراء
من هنا مر الأردنيون حفاة السيوف والأقدام
في أرواحهم يقدح حجر الصوان
وفي لحاهم المغبّرة تعوي الذئاب
أيّتها الهوادج
أيّتها الهوادج
من هنا مر شعبي
عارياً وضامراً يسحب خلفه نهراً يابساً وصقوراً كهلة".
قصيدة من المجموعة الثانية "منذ جلعاد كان يصعد الجبل"، وسنجد مقاطع شبيهة في "رعاة العزلة" و"وصول الغرباء"، بل سيبدو الكتابان على نحو ما استطراداً. نصٌ متتابع يلتزم فيه المتكلم بأن يعود مراراً وتكراراً كنوع من تأسيس متجدد للكلام، إلى سيرته الخاصة، بل إلى أسطورة الهوية المفقودة الضائعة على جسور الانتقال والمنافي والغربة.
والأرجح أنها أيضاً أسطورة النسب المكسور والمهد الضائع، وإذ قيل هذا الكلام من أقرب مخيلة له، أي مخيلة العشيرة الواقعية المهجورة المهجرة، فإن كلام الهوية والنسب يتخذ له محمولاً قريباً راعفاً.
ما أسمّية التأسيس هنا، هو نوع من تعريف متكرر للكلام بنفسه، والأرجح أن هذا الانتساب الأول نوع من تسمية المتكلم والمكان. هذا تقليد طللي بطبيعة الحال، والتقليد الطللي، على غير ما توحي به رطانة حديثة، استعارة كبرى في شعرنا. المعرفة والتغريبة أساسان في تخييلنا كله، وكلتاهما تصدران عن زوال المكان، انزياح المكان وابتلاعه وتحوله وتقمصه في ما بعد في أمكنة شتى.
تبدأ الرحلة من فقد هائل لا يعوض، من زوال لا يعوضه إلا بقاء الاسم المدموغ باسم صاحبه، الاسم الطوطم، النسب العائد إلى أصل مفقود. نبدأ من اسم المكان الزائل كما لو كنا نبدأ من قارة ضائعة أو ثقب أسود. نبدأ من العدم، من الزوال نفسه، حيث البداوة هي هذه الرحلة بين الاسم والمكان، هي هذا الاسم المركب إنْ لم تكن البطاقة المثلثة من اسم وجسد ومكان. بطاقة مثلثة هي فقدان يسند بعضه بفقدان.
البداوة في عصر الفضاء هي أيضاً أوديسا فضائية، حيث العالم نصف مسمى، حيث هو مفقود الطرف الأول والأخير. لنقل إنها تحية بدوية قبل استحضار شوارد من كل مكان. لكأنّ هذه اللازمة البدوية نوع من مقام موسيقي، من وزن، من ترجيع يستقبل كلاماً مختلطاً، منوّعاً في المصدر والمكان والمخيلة. لنقل إن اللازمة البدوية إيقاعٌ يُصالح بين لغات عدة ومخيلات عدة، ذلك أن الشاعر يباشر بداوة تنقله من بيروت إلى قبرص إلى لندن من دون فرق. وهذه من دون شك بداوة معاصرة، أو بداوية مستقبلية، إذا جاز التعبير. انتساب يجعله الكلام دائماً حيّزاً ومكاناً، ولنا أن نستذكر أن طابع الشعر يومذاك كان قدراً من سيولة لغوية، من لغة فلكية، من استحضار للغة كلها والقاموس كله. إن اللغة كلها كانت مكان الكلام وموضوعه في الغالب.
إن الشعر كان أقرب إلى "معلّقة" حديثة، إلى نوع من إعلاء لغوي أو مفارقة لغوية. الأرجح أن شعر أمجد ناصر مع عدد من شعراء الطور الثاني في القصيدة الحديثة بدأ رجوعاً إلى "الموضوع"، أي إلى لغة محدودة وجزئية، إلى حيز لغوي، إلى اللغة التي ليست انتشاراً سديمياً بل تكوين بؤري وحواري ومتقاطع وشبكي.
الموضوع إذن بوصفه بؤرة وناظماً داخلياً أو خارجياً للكلام وحيزاً خاصاً به، ومن الواضح أن الموضوع ليس فقط عنواناً، وقد لا يكون عنواناً على الإطلاق. إنه "الفكرة" اللاحمة، غرض الكلام الداخلي ونظامه إذا جاز القول، ثمة في ذلك إعادة اعتبار للمعنى أيضاً بعد أن تراءى لوقت أن الشعر صناعة صور لا معان. أو لنقل تراءى أنه لعبة صور وفي اللعب لا تصمد المعاني. لنقل إن شعراً بلا موضوع هو الشعر الذي يجد غرضه في نفسه، الشعر الذي ليس فناً فحسب، بل هو أيضاً معنى وفكرة وطوبى وبرنامج حياة ومثال أخلاقي وحياتي، ثم إن شعراً بلا موضوع هو شعر حلولي، أي أن ثمة دائماً الموضوع الأعلى، موضوع المواضيع، الموضوع الذي يشهد له وبه كل شيء.
ليس شعر أمجد ناصر لهذا صوفياً، ولو بدا في بعض شعره أنه يستعيد لغة وجدٍ عشقي. موضوع البداوية والانتقال الذي يتداوله شعره هو أولاً تحديد للشعر وللتجربة، بحيث يمتنعان أن يكونا تماهياً مع الشعر والإنسان بالإطلاق. هناك شعر وإنسان من دون إطلاق، لكن البدوي المهاجر والغريب هو في شعر أمجد ناصر موضوع وليس موضوعاً، إنه يحمل البداوية كقرينة. كمعنى أول قبل أن يغدو له معنى ثان وثالث ورابع، ولنقل بكلمة أخرى إن البدوي موضوع بقدر ما هو نموذج. إنه هكذا بالمعنى الذي عليه غجري لوركا وديمقراطي ويتمان وكوسموبوليتي أبولينير. أي إنه نموذج أنطولوجي أولاً، يتأسس الكلام عليه ليتخذ بعد ذلك وعلى الأساس نفسه بعداً ثانياً وثالثاً، وإذا كان لنا أن نزيد قلنا إنه أيضاً نموذج لغوي.
فالبدوي ليس فقط قاموساً إذن، لأننا نعود إلى الأكباش والنصال والصقور والشمس الواسعة والذئاب والغزلان.. إلخ. ليست هذه مفردات فحسب، إنها في الأرجح كلمات ـــ طقوس أو كلمات فيتشية أو كلمات ـــ أسماء (أسماء الصحراء والماضي)، ذلك أن أمجد ناصر لا يسعى فحسب إلى حصر "موضوعه"، بل يسعى بموازاة ذلك إلى حصر قاموسه، أو لنقل إلى نوع من كلمات ـــ أشياء، كلمات ذات حجم وكتلة وحضور مادي: "الأولاد المعفرون في التراب"، "الشاي المنعنع في المساءات"،
"ذهبتُ إلى البراري
فلم أجد إلا عزلة الذئب
ووحشة الأفعوان"،
"الخزام في الأنف والثياب السود".
نحن هنا أمام كلام حرفي وشبه اصطلاحي، لكن هذا في لغة كلغة أمجد ناصر، طبقة أولى من كلام متعدد الطبقات. ستكون هنا الكنايات المباشرة للبداوة، لكن شعر أمجد ناصر ينطوي في تماسكه اللغوي الظاهر والصلب أول وهلة على لغات عدة متصالحة وغير متصالحة.
هناك، إذا جاز التعبير، الفولكلور. "صف كامل من نصال توهّجت/ خلف أكفال الخيول المتدافعة"، لكنك هنا أمام مخيلة قد تصدر عن فيلم لكوروساوا. الاسم البدوي هنا ليس مضللاً بالطبع، لكنه ليس نهائياً وإزاحته كثيرة واستعداده للإزاحة ماثل دائماً. هناك أيضاً الأغنية "كصقر محطم القلب، كعاصفة بلا أسنان"، لكن أغنية الصقر هذه رغم منبتها الصحراوي صالحة لكل الأرصفة، وهذه العاصفة التي بلا أسنان قد تصفر في أصقاع أوروبا الجليدية. لقد عصرت المدن والمدن العالمية بالطبع "أزهار الشرفات المطلة على حداد/ ومساء بسيط"/ إنها المدن العالمية لا الأرياف والمدن المحلية ولا سلطات الاستبداد الخاصة فحسب، هي التي ردت "خيول الصباح المنير" وعالم الغزلان والأكباش.
لكن المسافة بين المسرح الفولكلوري والمدن العالمية كبيرة بمقدار مخيلة أمجد ناصر وبمقدار إزاحته السريعة. بالأحرى بمقدار زمن أمجد ناصر المتحول المتحرك، فالأرجح أن حسرة البدوي وحسرة أبي عبد الله، آخر ملوك بني الأحمر، حسرة بلا مكان "كل كلامنا القديم قيل بلا رحمة/ كل ما اشتهينا فعله اقترفه الآخرون/ في فجاجة"، حسرة الغجري، البدوي، المخلوع، المنفي، الغريب، هي أيضاً تنهد عوليس المعاصر وهي أيضاً حكمة كفافي التي تتستر على شهواته أو هي مرثية العمر الهارب نفسها، وهي تسكع الماغوط و"الزن" الحديث "أريد أن أمشي وحيداً وأغلق باب الحديقة ورائي"، وهي الخروج من المضرب الشخصي، من مربع المتكلم إلى المرآة "ما من مرة إلا وأزاحم مخلوقات سريعة الغضب على منافض السجائر"، وإلى المديح والقبول "أفكارهم أضاءت مواضع أصابعنا على ثقوب الناي".
المسافر الذي لا يلوي وراءه هو نوع من عوليس أو بالأحرى من سندباد بري، فشعر أمجد ناصر ترابي إلى حد بعيد، وأحسب أن به رهبة من الماء، رهبة من السيولة. الصلابة هنا هي المثل. والعالم قبل كل شيء كتلة وحجم وحدود واضحة، سندباد بري يتقمص صنوفاً من الوجوه والأقنعة والكلام وله رحلة في الزمان والمكان، من المربع الشخصي إلى المرآة. من الأمكنة التي تنفتح إلى ما لا نهاية. إلى الزمان الذي يضيع في تاريخه.
من البورتريه إلى الفريسكات الكبيرة، ومن العبارة البسيطة إلى تلافيف ودهاليز العبارة المدورة. رحلة إلى الأكثر تعرجاً وازدواجاً وإزاحة وتركيباً والتفافاً. ولنقل إن كل ذلك يحدث بنوع من مخيلة مادية، بنوع من وضوح عصابي ووضوح اكتئابي، كما بوسعنا أن نتكلم عن كافكا. من المفرق إلى بيروت إلى لندن. من البدوي إلى العاشق المجنون والماجن والمستحيل.
من العواصم إلى التاريخ المسلوب في غرناطة. كل ذلك من استحالات السفر العوليسي والرحلة التي تمضي من تراب إلى تراب، من الوعورة إلى الغابات الإسمنتية وشبكات الشوارع. انزلاق فانزلاق، لكنه ليس انزلاقاً فحسب. المفرق مرئية من لندن، غرناطة موجودة في بيروت، ومجنون ليلى في بارات أوروبا وربما مواخيرها.
اللحظة المركبة الصلبة، نوع من السفر في اللحظة، نوع من مكان مركب وزمان مركب. لا ينتهي السفر لكنه يزداد ثقلاً، سفر العاشق في جسد المعشوقة، أو طوافه حول المعشوقة. إنه سفر في العمق لا في المدى، سفر الشاعر في وعر اللغة وصخر اللغة، هو نحت والنحت أيضاً بطيء، ثقيل لكنه دائماً السفر الذي يبدأ من إشهار الاسم وإشهار الكنية.
أقدّم نفسي وأبدأ رحلتي أعلن نسبي واسمي وأبدأ غربتي، هكذا يبدو السفر، من الأساس، ابتعاداً متدرجاً عن الاسم والنسب والنفس. هكذا يبدو السفر نوعاً من الذهاب في الطريق المعاكس:
"الذين يعرفوننا قديماً لن يعرفونا بعد
مضى وقت الخروج من الحفل ورفع الأقنعة
مضى وقت استعادة الأسماء".
لغة صلبة مسنّنة محددة وترابية، لغة رجولية وشبه رجولية. ليست لغة سيالة بطبيعة الحال، لكن أمجد ناصر يلاعب الصعب. إنه يقصّب من هذه اللغة غناء فولكلورياً.
يوسعها بقدر من المأثور أو ما يحاكي المأثور الشعبي وغير الشعبي. يدخلها في نوع من التنقيط (الحصان/ والمسافة/ والصوت)، وينحو بها إلى ما يشبه القصيدة الموضوعية (القمصان، الأحذية)، يعرّضها لتقطيع نغمي مفصلي (كره وانتفض/ وغنى ففاض/ من تسامق واحتد). وبالتوازي لتقطيع سينمائي، لما يشبه كادرات ومشاهد.
يتوجه الكلام من المتكلم والمخاطب إلى الغائب، من المواجهة إلى المرآة، ومن التنقيط والتقطيع إلى التدوير والفريسكات الكلامية، من المفرد إلى الجمع ومن المتانة أحياناً إلى الفصاحة، والفصاحة ليست سيولة بقدر ما هي نحت. ذلك أن أمجد ناصر بعد أن يقدم نفسه باسمه ونسبه يقدم نفسه بلغته. والنحت والمَضاء في اللغة هما افتتان وفيتشية أكثر منهما ترجيعاً وحداء.
في "سر من رآك" ذلك الحب الفيتشي، إذ يؤدي امتلاك المحبوب بتقطيعه وتصنيمه عضواً عضواً إلى نوع من لغة شبه فيتشية أيضاً، إلى حد أنها لغة التسمية (الحقوان وما يطويان قبل المياه/ وردة الدانتيلا السوداء في أعالي الفخذ/ الأعضاء تتنفس وتكنز ثروتها)، لكنها أيضاً لغة تعزيمية (اذرفي يا خرزة الأفعى/ يا عين الغفلة القاتلة).
لا نجد هنا سيولة بل نجد نصاً باروكياً وأنواعاً من اللغة والأسلوب كأنما امتلاك اللغة كامتلاك الجسد يتم عضواً عضواً وجزءاً جزءاً. اشتهاء اللغة هو أيضاً كاشتهاء الجسد، اللغة هي أيضاً عقار الحب والرقية والتعزيم الشافي، إنها غيبوبة وسحر، وهي بطبيعة الحال معبودة، لكن بأكثر من نبر. معبودة بالجنون العذري ومعبودة بالسحر، ومعبودة بالمأثور ومعبودة بالارتجاز. ذلك أن فيتشية اللغة معرض لفانتسمات شتى وللغة توازي بين تقطيع الجسد وإعادة إحيائه بالبخور والتعزيم والسحر بشتى صنوفه.
الأرجح أن اللحظة اللغوية تغدو مرتقى الأنفاس كما يوحي الاسم أكثر صعوبة، إنها التنفس في الأدغال والضرب في معدن وصخر، والرحلة عبر التمرئيات وعبر التماهي بين الكلام والمتكلم إلى حد اختفاء الأثر.
الرحلة بين الموطن الزائل والاسم الموشوم والنسب الزائح تؤدي إلى مثول الثلاثة في واحد، غرناطة هي صورة هذا الزوال المثلث، هي البؤرة التي تنعكس في نفسها وتجمع انعكاساتها الكثيرة وتقمصاتها في داخلها. تتوزع وتنشطر وتتمرأى وتتحول في اللحظة التي تعود فيها سراً لا يُنال، اسماً ضائع الأول والآخر. لحظة اتحاد هي أيضاً لحظة تكوكب ودخلنةٍ وتكامل.
هكذا تبدو رحلة أمجد ناصر الشعرية وقد آلت إلى مفترق. فليس صدفة أن يكون "مرتقى الأنفاس" ختام هذا المؤلف. لقد غدا اسم المفرق غرناطة وكان من قبل سُرَّ مَن رأى. لم يجد القارة المفقودة، لكن وجه الزوال المعبود المتجوهر الكلي والاسم الذي يزحم الجسد والنفس.
ولا بد أن هذا الكتاب نوع من اكتمال، ولا بد أن الشاعر في سبيله إلى رحلة أخرى.
بيروت ـــ صيف 2001