08 نوفمبر 2024
جدلُ العدالة والمصالحة في تونس
أنهت هيئة الحقيقة والكرامة في تونس أشغالها قبل أيام، وهي ثاني تجربة عربية في العدالة الانتقالية بعد تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب. وهي تبدو، كما غيرها، محكومةً بسياقها الخاص، والذي عكسته الإكراهات التي واجهتها الهيئة منذ تنصيبها قبل أربع سنوات.
وإذا كان غياب رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب عن آخر جلسة للهيئة يحيل، في جانب منه، على منسوبٍ معينٍ من عدم الاكتراث تبديه الدولة التونسية (العميقة!) حيال الهيئة وأشغالها، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية هذه التجربة، وما تنطوي عليه من إمكاناتٍ كبيرةٍ للإسهام في تعزيز المسار الديمقراطي والمصالحة الوطنية في تونس.
تتقاطع التجربة التونسية مع نظيراتها في العالم عند تلك الإشكالية الدالة التي عادة ما تواجهها الديمقراطيات الفتية التي تتصدّى لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. يتعلق الأمر بإشكالية محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، وتقديمهم للعدالة، بما يعزّز المسار الديمقراطي، ويكرس سيادة القانون. بيد أن هذا المسار غالبا ما يكون نتاج توافق سياسي بين النظام السابق (المسؤول سياسيا عن الانتهاكات) والمعارضة، ما يجعل معالجة هذه الانتهاكات في قلب هذا التوافق. وبالتالي، يصبح خيار مساءلة هؤلاء محفوفا بمخاطر كثيرة، على اعتبار أن ذلك قد يدفع القوى المحسوبة على النظام السابق إلى رد فعل يُجهز على المسار الديمقراطي برمته. ويزداد الأمر صعوبةً في حالة وجود منظمات وجماعات حقوقية قوية، تتبنّى مطالب الضحايا وعائلاتهم، ما يضع الأنظمة الديمقراطية الجديدة، في أحيان كثيرة، في مأزق حقيقي (حالة الأرجنتين مثلا).
من هنا، فإن ما آلت إليه أشغال هيئة الحقيقة والكرامة في تونس يجب أن يقرأ في ضوء بعض المعطيات، أبرزها عدم تعاون مؤسسات الدولة معها، خصوصا بعد انتخابات 2014 التي حملت حركة نداء تونس إلى السلطة، بما لذلك من دلالةٍ سياسية واضحة، وغيابُ الانسجام العضوي بين مكوناتها، في أحيانٍ كثيرة، الأمر الذي أثر، إلى حد ما، على فاعليتها وحدّ من إمكاناتها.
وفي الوسع القول إن ميزان القوى الحالي في السياسة التونسية أسهم في جعل الهيئة تبدو كأنها غير مسنودة بمخرجات ثورة الياسمين. فهذا الميزان، وإنْ لا يميل لصالح القوى المنحدرة من نظام بن علي، بكل أذرعه السياسية والأمنية والاجتماعية، إلا أنه، في المقابل، يجعل الحد من نفوذ هذه القوى وسطوتها، داخل المعادلة السياسية التونسية، أمرا يكاد يكون مستحيلا، على الأقل حاليا. ولهذا، فإن أي تقييم لمسار العدالة الانتقالية في تونس يجب أن يأخذ ذلك كله بالاعتبار، ما يعني، في النهاية، أن التجربة التونسية في العدالة الانتقالية تبدو قريبةً من التجارب التي غلّبت منطق المصالحة على العدالة، إذا اعتبرنا الأخيرة تحيل على مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات والتجاوزات التي حدثت ومحاسبتهم.
وهناك أمر آخر يتمثل في الإخفاق النسبي لحركة الضحايا وعائلاتهم في تشكيل حزامٍ من الضغوط المتواصلة على الفاعلين السياسيين، على اختلاف مواقعهم، وهي ضغوطٌ ربما كانت ستعطي زخما آخر لمسار العدالة الانتقالية في تونس. ولعل في عدم أخذ هذه الحركة مسارا مستقلا عن الأحزاب والنخب والمجتمع المدني، يُخوّلها تشكيل ديناميات موازية في هذا الصدد، حدَّ من تأثيرها في حصيلة أشغال هيئة الحقيقة والكرامة. وتنبئنا تجارب مقارنة بالدور الكبير الذي لعبته المنظمات الحقوقية وتكتلات الضحايا في الانعراج بالعدالة الانتقالية نحو معادلاتٍ أكثر إنصافا لهؤلاء ولمعاناتهم، من خلال إحداث نوع من التوازن بين ضرورة إقامة العدالة (ليست دائما قضائية!) من جهة، وإنجاز المصالحة الوطنية.
الديمقراطية التونسية الفتية في أمس الحاجة لعدالةٍ انتقاليةٍ تمدّها بموارد جديدة، وتفتح أمامها دروبا أخرى لتعزيز مؤسّساتها، وترسيخِ حكم القانون، وحمايةِ الحقوق والحريات، والقطعِ مع الإفلات من العقاب، وحماية الذاكرة، وجبرِ الضرر الفردي والجماعي، وضمانِ عدم تكرار الانتهاكات التي حصلت في الماضي، والتفاعلِ أكثر مع الآليات الدولية ذات الصلة، وهو ما يعني، بالضرورة، إصلاحا مؤسّساتيا شاملا يعكس إرادة الفاعلين في بناء عقد اجتماعي جديد، يجعل الدولة، بمختلف مؤسساتها وهياكلها، في خدمة المواطن أولا وأخيرا.
وإذا كان غياب رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب عن آخر جلسة للهيئة يحيل، في جانب منه، على منسوبٍ معينٍ من عدم الاكتراث تبديه الدولة التونسية (العميقة!) حيال الهيئة وأشغالها، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية هذه التجربة، وما تنطوي عليه من إمكاناتٍ كبيرةٍ للإسهام في تعزيز المسار الديمقراطي والمصالحة الوطنية في تونس.
تتقاطع التجربة التونسية مع نظيراتها في العالم عند تلك الإشكالية الدالة التي عادة ما تواجهها الديمقراطيات الفتية التي تتصدّى لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. يتعلق الأمر بإشكالية محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، وتقديمهم للعدالة، بما يعزّز المسار الديمقراطي، ويكرس سيادة القانون. بيد أن هذا المسار غالبا ما يكون نتاج توافق سياسي بين النظام السابق (المسؤول سياسيا عن الانتهاكات) والمعارضة، ما يجعل معالجة هذه الانتهاكات في قلب هذا التوافق. وبالتالي، يصبح خيار مساءلة هؤلاء محفوفا بمخاطر كثيرة، على اعتبار أن ذلك قد يدفع القوى المحسوبة على النظام السابق إلى رد فعل يُجهز على المسار الديمقراطي برمته. ويزداد الأمر صعوبةً في حالة وجود منظمات وجماعات حقوقية قوية، تتبنّى مطالب الضحايا وعائلاتهم، ما يضع الأنظمة الديمقراطية الجديدة، في أحيان كثيرة، في مأزق حقيقي (حالة الأرجنتين مثلا).
من هنا، فإن ما آلت إليه أشغال هيئة الحقيقة والكرامة في تونس يجب أن يقرأ في ضوء بعض المعطيات، أبرزها عدم تعاون مؤسسات الدولة معها، خصوصا بعد انتخابات 2014 التي حملت حركة نداء تونس إلى السلطة، بما لذلك من دلالةٍ سياسية واضحة، وغيابُ الانسجام العضوي بين مكوناتها، في أحيانٍ كثيرة، الأمر الذي أثر، إلى حد ما، على فاعليتها وحدّ من إمكاناتها.
وفي الوسع القول إن ميزان القوى الحالي في السياسة التونسية أسهم في جعل الهيئة تبدو كأنها غير مسنودة بمخرجات ثورة الياسمين. فهذا الميزان، وإنْ لا يميل لصالح القوى المنحدرة من نظام بن علي، بكل أذرعه السياسية والأمنية والاجتماعية، إلا أنه، في المقابل، يجعل الحد من نفوذ هذه القوى وسطوتها، داخل المعادلة السياسية التونسية، أمرا يكاد يكون مستحيلا، على الأقل حاليا. ولهذا، فإن أي تقييم لمسار العدالة الانتقالية في تونس يجب أن يأخذ ذلك كله بالاعتبار، ما يعني، في النهاية، أن التجربة التونسية في العدالة الانتقالية تبدو قريبةً من التجارب التي غلّبت منطق المصالحة على العدالة، إذا اعتبرنا الأخيرة تحيل على مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات والتجاوزات التي حدثت ومحاسبتهم.
وهناك أمر آخر يتمثل في الإخفاق النسبي لحركة الضحايا وعائلاتهم في تشكيل حزامٍ من الضغوط المتواصلة على الفاعلين السياسيين، على اختلاف مواقعهم، وهي ضغوطٌ ربما كانت ستعطي زخما آخر لمسار العدالة الانتقالية في تونس. ولعل في عدم أخذ هذه الحركة مسارا مستقلا عن الأحزاب والنخب والمجتمع المدني، يُخوّلها تشكيل ديناميات موازية في هذا الصدد، حدَّ من تأثيرها في حصيلة أشغال هيئة الحقيقة والكرامة. وتنبئنا تجارب مقارنة بالدور الكبير الذي لعبته المنظمات الحقوقية وتكتلات الضحايا في الانعراج بالعدالة الانتقالية نحو معادلاتٍ أكثر إنصافا لهؤلاء ولمعاناتهم، من خلال إحداث نوع من التوازن بين ضرورة إقامة العدالة (ليست دائما قضائية!) من جهة، وإنجاز المصالحة الوطنية.
الديمقراطية التونسية الفتية في أمس الحاجة لعدالةٍ انتقاليةٍ تمدّها بموارد جديدة، وتفتح أمامها دروبا أخرى لتعزيز مؤسّساتها، وترسيخِ حكم القانون، وحمايةِ الحقوق والحريات، والقطعِ مع الإفلات من العقاب، وحماية الذاكرة، وجبرِ الضرر الفردي والجماعي، وضمانِ عدم تكرار الانتهاكات التي حصلت في الماضي، والتفاعلِ أكثر مع الآليات الدولية ذات الصلة، وهو ما يعني، بالضرورة، إصلاحا مؤسّساتيا شاملا يعكس إرادة الفاعلين في بناء عقد اجتماعي جديد، يجعل الدولة، بمختلف مؤسساتها وهياكلها، في خدمة المواطن أولا وأخيرا.