بعد تفرّغه للإخراج التلفزيوني، ونجاحه البيّن فيه، وانقطاعه عن التمثيل، يظهر حاتم علي ممثلاً أمام عدسته الخاصة، ويختار من بين شخصيات مسلسله الأخير "العراب – نادي الشرق" شخصية "نورس"، الأستاذ الجامعي والكاتب، شبه المعدم والذي يدين حتى للبقال، أي بمعنى أدقّ "ما معو ياكل".
كُتِب عن المسلسل الكثير، ونال إعجاباً من الجمهور والنقاد، باستثناء بعض التطويل والهنّات الناجمة عن الاستعجال في الكتابة، الخلاصة تبقى أن المسلسل كان من أفضل أعمال هذا الموسم، وأن جمال سليمان هو عرّاب الممثلين العرب اليوم، ودانا مارديني النجمة الأولى القادمة، ورافي وهبي كاتب قدير كذلك هم مديرا الإضاءة والتصوير ومؤلف الموسيقى التصويرية... لن نكرّر كلّ هذا لأنّ حاتم علي يأخذنا إلى منطقة أكثر جاذبية، وإثارة للفضول.
حاتم علي، أجاب في تصريحات صحافية عن السؤال قائلاً إنه ببساطة وجد الشخصية تناسبه. ولكن "المناسبة" ليست وصفاً دقيقاً لمن تابع المسلسل، واضح أنّ علي وقع في هوى الشخصية، وربما اختار لها بنفسه الاسم الذي يدلّ على تقديره لها، فجعلها على اسم الطائر الأبيض عاشق الشواطئ والسمك والموانئ، قبل أن نكتشف في الحلقات الأخيرة أنه اقتيد من سجن كبير (معنوي) إلى آخر أصغر (مادي).
ولكن الهوى وحده ليس السبب أيضاً، فنحن نكتشف أثناء تحليقنا خلف نورس، ومتابعة تطوّرات شخصيته والأحداث التي تعصف به، أنّ المخرج اختار تقديم الشخصية الأكثر دقّةً في المسلسل، ليس بسبب طول الحوارات وعنف الانفعالات بل بالعكس، بسبب صمت الشخصية الصاخب بالمعاني والتأويلات...
وأقرأ أيضاً: "نادي الشرق"... أصالة الواقع وجدوى النسب إلى "العراب"
لاحقاً، نكتشف أنّ نورس هو الشخصية الأقلّ كلاماً، بالنسبة لمساحة ظهوره، (باستثناء "لونة" ابنة العراب الصغرى، المعوقة ذهنياً والخرساء) ليس فقط بسبب هدوئه وكونه شخصاً قليل الكلام، بل لأنّ القدر يرمي لونة أمام بابه، هي التائهة المجهولة يشاركها معظم مشاهدها، لا يجرّب أن يحدّثها بالكلام كي يفهم المشاهد ما يجري، بل يعتمد الصمت، لغة الجسد الصافية، يؤدّي بصمته ونظرات عينيه وابتساماته...
وفي القسم الثاني من دوره يجنح نورس أكثر نحو الصمت، أثناء التحقيق معه بتهمة إخفاء لونة لابتزاز عائلتها يلتزم رواية مقتضبة، يرفض تزويرها. في ساعات التحقيق والتعذيب لا نسمع سوى صراخ نورس، وفي صمته أيضاً نسمع صراخه.
ثم يُرمى في الزنزانة بتُهم أخرى بسبب صداقته مع مدوّن، والاشتباه بأنه كاتب ومثقف، وتلك تهمة طالما استحقت السجن في الأنظمة البعثية وأخواتها. يفقد ريش النورس الأبيض نصاعته في عتمة زنزانة نموذجية للأنظمة العربية، كم من جسد تعفّن هناك ويتعفّن! أكثر بكثير مما يقدّر الفنّ والفنانون، لأنّ الواقع أثبت من قريب جداً أنّ الظلم "شرقَ المتوسط" أكبر بكثير من خيال وصدق وفجيعة أي فنان عربي، حتى عبد الرحمن منيف نفسه.
عبّر حاتم علي لاحقاً أنه ندم على التجربة، ويمكننا تفهّم ندمه ونحن نلمس كم تكبّد من عناءٍ لتجسيدها، نظراً لصعوبة عمل المخرج ممثلاً في مسلسله، تحديداً والوقت ينفد من بين يديه والموسم الرمضاني يلاحقه كموجة تسونامي، إذ يتضح لنا من تركيبة الشخصية والمعالجة الدرامية أنّ حاتم علي وجد من الصعب توصيل ما يريده تماماً من مؤدي شخصية نورس، رغم براعة ممثلين سوريين كثيرين كان يمكن أن يقوموا بالدور، ولكن كيف كان لعلي أن يوصل للممثل ما يتوقعه منه وما يريده من الشخصية من دون أن يهدر ذرة طاقة واحدة في أثناء توصيله وتدريبه؟ كيف كان له أن يضع في عيني الممثل تلك النظرة التي لا توصف لنورس تجاه الطفلة التي تلحق به نحو مخفر الدرك حيث نوى أن يسلّمها، فيقرّر بنظرة أخرى أن يتراجع ويمنحها فرصة النجاة من مصيرين لا ثالث لهما: السجن أو مستشفى الأمراض العقلية.
الكاتب يحرق أصابعه
في الحلقة الخامسة عشرة، منتصف المسلسل، ذروة الحبكة، يأخذ نورس مسوّدة روايته، التي ما لبث يعيد تعديلها لتناسب الرقيب وتحظى بموافقته للنشر، يأخذها ويحرقها. حين يتأكد أن النيران نالت منها، يدير ظهره ويعود إلى حيث لونة، التي تتابع الحريق من دون انفعال، والتي سبق لها أن مزقت تلك الأوراق ورمتها من فوق سطح المنزل في ثورة غضب. وقد اعتبر نورس ما قامت به لونة إشارة سماوية، وتشجيعاً على خاطرة كانت تلاحقه ولكنه لم يجرؤ على تنفيذها ألا وهي التخلي عن تلك الرواية والبدء من جديد، لذا فضّل الكاتب أن يحرق أوراقه العزيزة على أن يعدّلها بما لا يشتهي، وأن يخضع لأمر الرقيب، ويكتب ما سيصبح روايةً ليست روايته.
تلك الرواية، كأي منتَج فكري، هي بالنسبة لصاحبها، الحلم وطوق النجاة، وهو يحرقها ليبدأ من جديد حلماً آخر، علّ ظروفه تكون أفضل أو ربما أسوأ!
وإن كان علي ووهبي قد نفيا وجود رسالة سياسية أو موقف سياسي من الثورة في مسلسلهما، الذي كانا قد اختارا له عنواناً أفضل بكثير هو "سفينة نوح"، نسبة لاسم بطل المسلسل "نوح"، فقد أكدا أنه يرصد المجتمع السوري وصراع رجال المافيا والسلطة قبل الثورة، إلا أنّ الثورة بكل تأثيراتها لم تغب، وباعتراف الثنائي أيضاً، فنحن نشهد أفول زمن عراب لمصلحة عرابين جدد، وسلطة الأب والنافذ وصاحب المال على أسرته وموظفيه ومجتمعه... ولكن في المشهد الأخير للقديرة منى واصف (أمّ نورس) بعدما تذوب رجلاها بحثاً عن ابنها المغيّب في السجن، نراها تدخل بيتها ونرى الباب يغلق لأول مرة منذ سجنه، فقد أبقته مفتوحاً آملةً أن يدخل ابنها بين لحظة وأخرى.
تدخل أمّ نورس، ويُغلق الباب.
صفعة على وجه الأمل. صفقة في وجه الأمل. الأمهات سيبكين طويلاً أطول من العمر المتاح لهن أن يعشنه. لا نذيع سراً إذا قلنا إنّ اليأس تمكّن من عدد كبير من السوريين بمختلف معتقداتهم وخياراتهم، ولكن علمنا بوجود جزأين آخرين من المسلسل المعدّ أن يكون 90 حلقة، يجعلنا نلتفّ نحو شباك منزل أم نورس، فإن أغلق الباب لا بدّ من وجود نافذة أمل وإن كانت كوّة صغيرة أو حتّى ثقباً في جدار.
كُتِب عن المسلسل الكثير، ونال إعجاباً من الجمهور والنقاد، باستثناء بعض التطويل والهنّات الناجمة عن الاستعجال في الكتابة، الخلاصة تبقى أن المسلسل كان من أفضل أعمال هذا الموسم، وأن جمال سليمان هو عرّاب الممثلين العرب اليوم، ودانا مارديني النجمة الأولى القادمة، ورافي وهبي كاتب قدير كذلك هم مديرا الإضاءة والتصوير ومؤلف الموسيقى التصويرية... لن نكرّر كلّ هذا لأنّ حاتم علي يأخذنا إلى منطقة أكثر جاذبية، وإثارة للفضول.
حاتم علي، أجاب في تصريحات صحافية عن السؤال قائلاً إنه ببساطة وجد الشخصية تناسبه. ولكن "المناسبة" ليست وصفاً دقيقاً لمن تابع المسلسل، واضح أنّ علي وقع في هوى الشخصية، وربما اختار لها بنفسه الاسم الذي يدلّ على تقديره لها، فجعلها على اسم الطائر الأبيض عاشق الشواطئ والسمك والموانئ، قبل أن نكتشف في الحلقات الأخيرة أنه اقتيد من سجن كبير (معنوي) إلى آخر أصغر (مادي).
ولكن الهوى وحده ليس السبب أيضاً، فنحن نكتشف أثناء تحليقنا خلف نورس، ومتابعة تطوّرات شخصيته والأحداث التي تعصف به، أنّ المخرج اختار تقديم الشخصية الأكثر دقّةً في المسلسل، ليس بسبب طول الحوارات وعنف الانفعالات بل بالعكس، بسبب صمت الشخصية الصاخب بالمعاني والتأويلات...
وأقرأ أيضاً: "نادي الشرق"... أصالة الواقع وجدوى النسب إلى "العراب"
لاحقاً، نكتشف أنّ نورس هو الشخصية الأقلّ كلاماً، بالنسبة لمساحة ظهوره، (باستثناء "لونة" ابنة العراب الصغرى، المعوقة ذهنياً والخرساء) ليس فقط بسبب هدوئه وكونه شخصاً قليل الكلام، بل لأنّ القدر يرمي لونة أمام بابه، هي التائهة المجهولة يشاركها معظم مشاهدها، لا يجرّب أن يحدّثها بالكلام كي يفهم المشاهد ما يجري، بل يعتمد الصمت، لغة الجسد الصافية، يؤدّي بصمته ونظرات عينيه وابتساماته...
وفي القسم الثاني من دوره يجنح نورس أكثر نحو الصمت، أثناء التحقيق معه بتهمة إخفاء لونة لابتزاز عائلتها يلتزم رواية مقتضبة، يرفض تزويرها. في ساعات التحقيق والتعذيب لا نسمع سوى صراخ نورس، وفي صمته أيضاً نسمع صراخه.
ثم يُرمى في الزنزانة بتُهم أخرى بسبب صداقته مع مدوّن، والاشتباه بأنه كاتب ومثقف، وتلك تهمة طالما استحقت السجن في الأنظمة البعثية وأخواتها. يفقد ريش النورس الأبيض نصاعته في عتمة زنزانة نموذجية للأنظمة العربية، كم من جسد تعفّن هناك ويتعفّن! أكثر بكثير مما يقدّر الفنّ والفنانون، لأنّ الواقع أثبت من قريب جداً أنّ الظلم "شرقَ المتوسط" أكبر بكثير من خيال وصدق وفجيعة أي فنان عربي، حتى عبد الرحمن منيف نفسه.
عبّر حاتم علي لاحقاً أنه ندم على التجربة، ويمكننا تفهّم ندمه ونحن نلمس كم تكبّد من عناءٍ لتجسيدها، نظراً لصعوبة عمل المخرج ممثلاً في مسلسله، تحديداً والوقت ينفد من بين يديه والموسم الرمضاني يلاحقه كموجة تسونامي، إذ يتضح لنا من تركيبة الشخصية والمعالجة الدرامية أنّ حاتم علي وجد من الصعب توصيل ما يريده تماماً من مؤدي شخصية نورس، رغم براعة ممثلين سوريين كثيرين كان يمكن أن يقوموا بالدور، ولكن كيف كان لعلي أن يوصل للممثل ما يتوقعه منه وما يريده من الشخصية من دون أن يهدر ذرة طاقة واحدة في أثناء توصيله وتدريبه؟ كيف كان له أن يضع في عيني الممثل تلك النظرة التي لا توصف لنورس تجاه الطفلة التي تلحق به نحو مخفر الدرك حيث نوى أن يسلّمها، فيقرّر بنظرة أخرى أن يتراجع ويمنحها فرصة النجاة من مصيرين لا ثالث لهما: السجن أو مستشفى الأمراض العقلية.
الكاتب يحرق أصابعه
في الحلقة الخامسة عشرة، منتصف المسلسل، ذروة الحبكة، يأخذ نورس مسوّدة روايته، التي ما لبث يعيد تعديلها لتناسب الرقيب وتحظى بموافقته للنشر، يأخذها ويحرقها. حين يتأكد أن النيران نالت منها، يدير ظهره ويعود إلى حيث لونة، التي تتابع الحريق من دون انفعال، والتي سبق لها أن مزقت تلك الأوراق ورمتها من فوق سطح المنزل في ثورة غضب. وقد اعتبر نورس ما قامت به لونة إشارة سماوية، وتشجيعاً على خاطرة كانت تلاحقه ولكنه لم يجرؤ على تنفيذها ألا وهي التخلي عن تلك الرواية والبدء من جديد، لذا فضّل الكاتب أن يحرق أوراقه العزيزة على أن يعدّلها بما لا يشتهي، وأن يخضع لأمر الرقيب، ويكتب ما سيصبح روايةً ليست روايته.
تلك الرواية، كأي منتَج فكري، هي بالنسبة لصاحبها، الحلم وطوق النجاة، وهو يحرقها ليبدأ من جديد حلماً آخر، علّ ظروفه تكون أفضل أو ربما أسوأ!
وإن كان علي ووهبي قد نفيا وجود رسالة سياسية أو موقف سياسي من الثورة في مسلسلهما، الذي كانا قد اختارا له عنواناً أفضل بكثير هو "سفينة نوح"، نسبة لاسم بطل المسلسل "نوح"، فقد أكدا أنه يرصد المجتمع السوري وصراع رجال المافيا والسلطة قبل الثورة، إلا أنّ الثورة بكل تأثيراتها لم تغب، وباعتراف الثنائي أيضاً، فنحن نشهد أفول زمن عراب لمصلحة عرابين جدد، وسلطة الأب والنافذ وصاحب المال على أسرته وموظفيه ومجتمعه... ولكن في المشهد الأخير للقديرة منى واصف (أمّ نورس) بعدما تذوب رجلاها بحثاً عن ابنها المغيّب في السجن، نراها تدخل بيتها ونرى الباب يغلق لأول مرة منذ سجنه، فقد أبقته مفتوحاً آملةً أن يدخل ابنها بين لحظة وأخرى.
تدخل أمّ نورس، ويُغلق الباب.
صفعة على وجه الأمل. صفقة في وجه الأمل. الأمهات سيبكين طويلاً أطول من العمر المتاح لهن أن يعشنه. لا نذيع سراً إذا قلنا إنّ اليأس تمكّن من عدد كبير من السوريين بمختلف معتقداتهم وخياراتهم، ولكن علمنا بوجود جزأين آخرين من المسلسل المعدّ أن يكون 90 حلقة، يجعلنا نلتفّ نحو شباك منزل أم نورس، فإن أغلق الباب لا بدّ من وجود نافذة أمل وإن كانت كوّة صغيرة أو حتّى ثقباً في جدار.