حادثة تحرّش

08 يناير 2020
+ الخط -
لا تطلقوا عليها فتاة المنصورة، ولا فتاة القاهرة، ولا الإسكندرية، بل أطلقوا على الحادثة أنها حادثة تحرّش، أو أنها حادثة انهيار آداب الشارع العربي عامة، أو حادثة شهامةٍ فردية، فالمهم لا تطلقوا عليها اسم الفتاة، وكأنها المسؤولة وحدها عما حدث. ولكن لا تطلقوا عليها اسم "حادثة الجميلة والوحش"، إنها حادثة في ليلة رأس السنة، وحيث يظنّ العامة والبسطاء ممّن لا ناقة لهم ولا بعير في الاحتفال أن مجرّد الخروج إلى الشارع هو مشاركة لهذا العالم الذي يرفُل في بذخٍ وثراءٍ في احتفالاته، فهذه المراسم والاستعدادات التي تنشر على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تُسيل اللعاب، وتفتح الشهية لممارسة الحق الشرعي للفقراء والبسطاء، خصوصا في الحياة. 
ربما ذكّرتنا تلك الأحداث بفيلم "المنسي" (بطولة عادل إمام)، وحيث كان يؤدّي عمله عامل تحويلة، ويتابع من بعيد احتفالات أثرياء في ليلة رأس السنة في فيلّا، ولم يكن يعلم أن هناك مساومةً رخيصةً تدور لإتمام صفقةٍ مهمةٍ محورُها رجل أعمال يريد تقديم سكرتيرته الحسناء لثريّ كبير، في مقابل إتمام صفقة، فتهرب السكرتيرة، وتستنجد بالموظف الغلبان، يوسف المنسي، والذي يُفاجَأ بأن عالم الأثرياء قبيح، على الرغم من أنه كان يتمنّى أن يدخله. ولذلك أمام حادثة التحرّش في أحد الأحياء المكتظة بحركة مرورية ومحالّ وأماكن ترفيه، نحن أمام حقد الفقراء على الحاجة، وعدم إشباع الرغبات، فهناك فتياتٌ جميلاتٌ يمشين في الشوارع، وهناك الجوع العاطفي والجنسي الذي سبّبه الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردّي في مصر، في السنوات الأخيرة خصوصا، فتأخّر سن الزواج واستحالته مع ظروف الشباب، فالطلاب الذين لاحقوا الفتاة وصديقتها كانوا في سن الدراسة الجامعية، ولكنهم يعرفون جيدا أنهم لن يجدوا عملا بعد التخرّج، ولن يستطيعوا بناء أسرة، وبالتالي أن يعفّوا أنفسهم، وأن يقضوا شهواتهم بالحلال، خصوصا أنهم في مجتمع لا يبيح العلاقات خارج الزواج، وحتى لو كان هناك إطار ضيّق للمتعة الحرام، فهي ليست مجانيةً، وتعاني من ارتفاع تسعيرتها.
من بين الذين لاحقوا الفتاة وصديقتها ماسح أحذية، تخيَّلوا هذا الشاب الذي يقضي وقته، وهو ينظر إلى الأسفل، فيرى السيقان وأمشاط الأقدام تمرّ من أمامه، وخياله يرسم صورا لأصحابها، خصوصا من الجنس الناعم. تخيّلوا موقفه حين يرى حشدا من الشباب، وربما لكزه بعضُهم لكي يتبعهم ففعل، وظلّ يطارد الفتاة من مكان إلى مكان، ويبدو أن الكثرة تولّد الشجاعة لدى الشباب؛ لأنهم يعرفون أن وجود الشرطة لن يكون ذا نفع أو فائدة، مع أعدادٍ كبيرةٍ من الشباب يلاحقون فتاتيْن، فالسيطرة عليهم ستكون عمليةً صعبة؛ ما يحقق لهم الظفر بلمسةٍ لثوب، أو عضو أنثوي مكشوف.
تعالت الأصوات أن الملابس القصيرة كانت موضة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكانت الفتيات والنساء المتزوّجات يخرجن بشعرٍ مكشوف، وفساتين قصيرة إلى ما فوق الركبة، حتى فساتين الزفاف كانت كذلك. وعلى الرغم من ذلك، لم تكن تسجَّل حالات التحرّش الجماعية التي نسمع بها، وكانت أقصى حالة تحرّش تتعرّض لها السيدة أن يقترب منها شابٌّ خجولٌ يرتدي بذلة وربطة عنق، ويسألها: لو سمحتِ الساعة كام؟
لا تفسير لما يحدث من حالة تحرّش، خصوصا من الفقراء، سوى أن الفقر يؤذي نفوسهم، ويجعلهم أكثر ميلاً لإيذاء الأثرياء أو من يملكون ما لا يملكون، بل يشعرون بالسعادة حين تصيبهم مصيبةٌ ما، وفتاة جميلة مهندمة خرجت للاحتفال في ليلة رأس السنة هي مدعاة للحقد، قبل أن تكون مدعاةً لإثارة الغرائز. والأغنياء من الشباب يتحرّشون أيضا؛ لأن الثراء الفاحش يوصلهم إلى تعاطي المخدّرات، والشعور بأن كل شيء سهلُ المنال بالنسبة لهم، وأن القانون سوف يحميهم، ويغطّي فعائلهم الدنيئة. مختصر القول إن المجتمع الذي يتجاور فيه الفقير مع الغني مع عشوائية توزيع الثروات يبقى استفزاز المشاعر فيه واردا، وانتهاز المناسبات للتعبير عن السُّخط سوف يزداد يوما بعد يوم؛ فلا غرابة ولا استهجان لحادثة تحرّش جماعي في مكان عام.
دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.