13 نوفمبر 2024
حب لا يموت
الغريب أنه لم يقل لها يوماً إنه يحبّها، وهي لم تفعل ذلك أيضاً، كما أنه لم يقدّم لها هدية ما، حتى وهو يحفظ كل المناسبات والتواريخ، وحين يأتي يوم الحب يضحك، وحين تمر ذكرى جديدة لزواجهما تبتسم، ولكنهما لم يتبادلا لا الكلمات، ولا الهدايا. ولكن، على الرغم من ذلك، كنت أرى أن حبهما أعظم حبٍ عرفته وعشته، منذ أن فتحت عيني على الحياة، فكنت ألمسه كما أفعل مع وريقة وردية جورية أصابها الندى ذات صباح.
كنت أشاهد الأفلام العربية التي تعرض على شاشة التلفاز بالأبيض والأسود، وأرى مشاهد الحب والغرام بين الممثلين، وأسمع كلمات الحب والغزل، ولكني لم أسمع ذلك بينهما، ولم ألمح مشاهد الاحتضان بينهما على سبيل أنهما مغرمان ببعضهما كما عرفت لاحقاً، فلم أصدّق أذني، حين باحت لصديقةٍ لها أنها تزوجته متحدّيةً أهلها، وأنه قد خالف تقاليد عائلته، حين تزوج بفتاةٍ ليست فلاحة مثله، وأن الجميع قد تنبأ لزواجهما بالفشل، ولكن الحب انتصر وعاش أكثر من أربعين عاماً حتى رحلت، ولست أرى أن الحب قد رحل، فقد ألبسه أبي حلةً جديدة اسمها الوفاء.
بالنسبة لها، كانت ترى أن العمر ارتدى ثوب الفرح، حين ارتبطت به، وأن الحياة كانت في غاية الكرم، حين منحتها إياه، وأنه شيء جميل في عالمها المحدود، فحين تتكلم عنه، ترى حروفها قد أصبحت فخمة وهي تردّد كنيته، ولم أسمعها يوماً تناديه باسمه مجرّداً، وحين كانت تلتقي بامرأةٍ غريبةٍ أول مرة في عيادة طبيبٍ مثلاً، كانت تحدثها عنه، وهي تشير له من طرفٍ بعيدٍ بأنه "زلمتها"، والزلمة هي مرادفٌ كلمة رجل في اللهجة الفلسطينية، ولكن أبداً لم تكن تطلقها على أي رجلٍ إلا هو، لأنه كان فعلا يستحقها حسب تقديرها، ففي كل موقفٍ كانت تجده " زلمتها".
بالنسبة له، كانت هي خريطة الطريق، فهو لا يعرف طريق ملابسه إلا حين تمرّ من تحت يديها، ولا يعرف وجبته إلا حين تضعها بين يديه، ومن غيرها يضيع، ويصبح كل شيء لا قيمة له، فقط هي حياة وتمر، لا معنى لها ولا يحسبها، ويبدأ حساباته حين تغيب فيقول: زرعت هذه الشجرة بعد وفاة الحاجة بثلاثة أيام. ومن هنا، بدأ تاريخه الجديد، حيث الأيام بدونها كثلاجة موتى، تنفذ منها رائحتها فيستنشقها كأنها آخر أنفاسه.
في يوم الفالنتاين الأخير قبل رحيلها عام 2010، مازحته بأنه لا يقدّم لها الهدايا، وكانا يمرّان من شارع طويل ازدانت أبواب محلاته بالورود الحمراء، والعلب المزخرفة، والتي يحملها العشاق لحبيباتهم في يوم الحب، فضحك وأشاح وجهه بعيداً، وكأنه تلميذ صغير، لا يجد طرف الإجابة أمام أستاذه ذي الشارب الكث، ولكنه، في أعماقه، كان يراها نهراً من العاطفة، لا يمكن أن يتركه، ليبحث عن الوديان في الصحراء الجافة، والنهر الثري ليس بحاجة لمزيدٍ من الماء، وأمسك بيدها ليقطعا الشارع، وابتاع لها علبةً من شرائح البطاطس المقرمشة، والتي تطلق عليها اسم حبّاتها التي تشبه "الطرطور"، فبدأت تهرسها تحت أسنانها المتآكلة بسعادة، حتى وصلا إلى باب البيت، وكانت قد فرغت من العلبة، ولكن علب الحب التي كان يفتح لها في كل موقفٍ واحدةٌ لم تفرغ.
لم تخبره أنه شيء مهم في حياتها، وأنها لا تستطيع النوم من دون وجوده في الغرفة نفسها، وتسمع غطيطه المنتظم، إلا حين داهمته وعكةٌ صحيةٌ ألزمته المشفى، فتركته هناك، وظلت تبكي ليلتها وحيدةً، تتعجل عقارب الساعة، وتلح على الشمس كي تشرق وتذهب إليه.
بعد وفاة أمي بأيام، فتحت خوانها، حيث عبق أنفي برائحة أشيائها الخاصة، فأغمضت عيني، لأعبّ من هواء الخزانة المقفلة، فأطلت علبة البطاطس المقرمشة الفارغة من بين ثيابها، كما يطل الأفق المتلألئ بين ذوائب الشجر، دمعت عيني، وطلبت لروحها الرحمة، وقد تأكدت أن المشاعر الحقيقية لا تأتي ضمن شروط صفقة مسبقة، ولا ليلة حب عابرة.
كنت أشاهد الأفلام العربية التي تعرض على شاشة التلفاز بالأبيض والأسود، وأرى مشاهد الحب والغرام بين الممثلين، وأسمع كلمات الحب والغزل، ولكني لم أسمع ذلك بينهما، ولم ألمح مشاهد الاحتضان بينهما على سبيل أنهما مغرمان ببعضهما كما عرفت لاحقاً، فلم أصدّق أذني، حين باحت لصديقةٍ لها أنها تزوجته متحدّيةً أهلها، وأنه قد خالف تقاليد عائلته، حين تزوج بفتاةٍ ليست فلاحة مثله، وأن الجميع قد تنبأ لزواجهما بالفشل، ولكن الحب انتصر وعاش أكثر من أربعين عاماً حتى رحلت، ولست أرى أن الحب قد رحل، فقد ألبسه أبي حلةً جديدة اسمها الوفاء.
بالنسبة لها، كانت ترى أن العمر ارتدى ثوب الفرح، حين ارتبطت به، وأن الحياة كانت في غاية الكرم، حين منحتها إياه، وأنه شيء جميل في عالمها المحدود، فحين تتكلم عنه، ترى حروفها قد أصبحت فخمة وهي تردّد كنيته، ولم أسمعها يوماً تناديه باسمه مجرّداً، وحين كانت تلتقي بامرأةٍ غريبةٍ أول مرة في عيادة طبيبٍ مثلاً، كانت تحدثها عنه، وهي تشير له من طرفٍ بعيدٍ بأنه "زلمتها"، والزلمة هي مرادفٌ كلمة رجل في اللهجة الفلسطينية، ولكن أبداً لم تكن تطلقها على أي رجلٍ إلا هو، لأنه كان فعلا يستحقها حسب تقديرها، ففي كل موقفٍ كانت تجده " زلمتها".
بالنسبة له، كانت هي خريطة الطريق، فهو لا يعرف طريق ملابسه إلا حين تمرّ من تحت يديها، ولا يعرف وجبته إلا حين تضعها بين يديه، ومن غيرها يضيع، ويصبح كل شيء لا قيمة له، فقط هي حياة وتمر، لا معنى لها ولا يحسبها، ويبدأ حساباته حين تغيب فيقول: زرعت هذه الشجرة بعد وفاة الحاجة بثلاثة أيام. ومن هنا، بدأ تاريخه الجديد، حيث الأيام بدونها كثلاجة موتى، تنفذ منها رائحتها فيستنشقها كأنها آخر أنفاسه.
في يوم الفالنتاين الأخير قبل رحيلها عام 2010، مازحته بأنه لا يقدّم لها الهدايا، وكانا يمرّان من شارع طويل ازدانت أبواب محلاته بالورود الحمراء، والعلب المزخرفة، والتي يحملها العشاق لحبيباتهم في يوم الحب، فضحك وأشاح وجهه بعيداً، وكأنه تلميذ صغير، لا يجد طرف الإجابة أمام أستاذه ذي الشارب الكث، ولكنه، في أعماقه، كان يراها نهراً من العاطفة، لا يمكن أن يتركه، ليبحث عن الوديان في الصحراء الجافة، والنهر الثري ليس بحاجة لمزيدٍ من الماء، وأمسك بيدها ليقطعا الشارع، وابتاع لها علبةً من شرائح البطاطس المقرمشة، والتي تطلق عليها اسم حبّاتها التي تشبه "الطرطور"، فبدأت تهرسها تحت أسنانها المتآكلة بسعادة، حتى وصلا إلى باب البيت، وكانت قد فرغت من العلبة، ولكن علب الحب التي كان يفتح لها في كل موقفٍ واحدةٌ لم تفرغ.
لم تخبره أنه شيء مهم في حياتها، وأنها لا تستطيع النوم من دون وجوده في الغرفة نفسها، وتسمع غطيطه المنتظم، إلا حين داهمته وعكةٌ صحيةٌ ألزمته المشفى، فتركته هناك، وظلت تبكي ليلتها وحيدةً، تتعجل عقارب الساعة، وتلح على الشمس كي تشرق وتذهب إليه.
بعد وفاة أمي بأيام، فتحت خوانها، حيث عبق أنفي برائحة أشيائها الخاصة، فأغمضت عيني، لأعبّ من هواء الخزانة المقفلة، فأطلت علبة البطاطس المقرمشة الفارغة من بين ثيابها، كما يطل الأفق المتلألئ بين ذوائب الشجر، دمعت عيني، وطلبت لروحها الرحمة، وقد تأكدت أن المشاعر الحقيقية لا تأتي ضمن شروط صفقة مسبقة، ولا ليلة حب عابرة.