حتى أَنت يا بروتوس

25 يونيو 2014
+ الخط -

قرأت، ضمن قراءاتي الكثيرة، قصة من التراثين، المكسيكي والياباني، عن صياد يدعى كينو، يعيش في قرية نائية تطل على بحر المكسيك، يعمل أهلها في صيد اللؤلؤ، وكان أن عثر على لؤلؤة ثمينة، وقد طلب، قبل ذلك من طبيب القرية أن يعالج ابنه، لكنه رفض معاينته، وحين علم أهل القرية بأمر اللؤلؤة، بدأوا يكيدون له ويتآمرون عليه، ويبخسون من ثمن اللؤلؤة. وأسرع الطبيب ليشتري منه اللؤلؤة، بثمن زهيد مقابل علاج ابنه، وحين حاول الفرار بلؤلؤته، بحثاً عن مشتر يشتريها بثمن باهظ، ليحسن وضع عائلته، كان مقتفو الأثر له بالمرصاد، وحاولوا قتله، وتعرض للموت جوعاً وعطشاً في أثناء رحلته عبر الجبال. وفي النهاية، عاد إلى قريته، ورمى اللؤلؤة في البحر، وهو يعلن، أمام أهل القرية، أن من يحاول أن يحسن من وضعه يتعرض للموت، وسيبقى فقيراً وحياً، أفضل له من الموت غنياً.
تذكرت هذه القصة، عندما علمت بأمر جاري الفقير سالم، والذي يحيا مع عائلته الفقيرة في فقرٍ مدقعٍ، منذ أزيد من عشرين عاماً، وأصبح لديه في هذه الأعوام عشرة أولاد، ولم يتغير في حاله شيء سوى العمل في أعمال حقيرة، ليحصل على ما يسد الرمق. وبعد هذه المعاناة، تبرعت له وزارة الشؤون الاجتماعية الفلسطينية بتكاليف افتتاح دكان بقالة صغير قرب بيته، وحين اعتقد أن حاله سينصلح، بدأ كل من حوله يغيرون معاملتهم له، فقد أسرع صاحب المطعم المجاور لبيته ليطالبه بثمن أطباق الفول التي كان يتبرّع بها لعائلته في الأيام الماضية، عندما كان يرسل له في ساعة متأخرة من الليل ما يتبقى لديه من فول. وحذا الجار الثري حذوه، وطلب منه ثمن ألواح الصفيح التي تبرع له بها في فصل الشتاء المارق، لكي يسد ثقوب سقف بيته، وأسرع آخرون من أقاربه لإبلاغ وكالة "أونروا" بأنه أصبح لديه دخل، ويجب قطع المعونات العينية عنه.
حين سمعت عما حدث مع سالم، سرحت بأحوال الفقراء في غزة، حيث يعيش أكثر من مليون فلسطيني على المعونات الإغاثية من جهات مختلفة، أولها "أونروا" التي بدأت مباشرة أعمالها الفعلية في غزة في مايو/أيار 1950، فسارع كثيرون من سكان غزة الأصليين، ويعرفون بـ"المواطنين"، لتسجيل أنفسهم لاجئين ضمن سجلات "أونروا". وبالتالي، انضمت أعداد كبيرة منهم إلى أعداد اللاجئين الحقيقيين الذين وصلوا إلى غزة، وهم لا يحملون شيئاً، فيما يسيطر السكان الأصليون على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية.
سوء توزيع المعونات الإغاثية في غزة مشكلة كبيرة، تجعل الفقير يزداد فقراً، كما في حالة سالم، والغني يزاحم الفقراء في طوابير توزيع الطحين، وعلى الرغم من محاولات "أونروا" كأكبر منظمة إغاثية في غزة تقليص أعداد المستفيدين من خدماتها، لكنها لم تصل، للأسف الشديد، إلى العائلات المحتاجة فعلاً، والتي تعيش فقط على هذه المعونات، وهي في حاجة لإحصاءاتٍ جديدةٍ وحقيقيةٍ وبحوثٍ ميدانيةٍ، تصل إلى الأسر المحتاجة التي تحسبها غنية من التعفف، فسالم، بعائلته الكبيرة،  قضى سنوات عمره الماضية، وهو ينتظر "الكوبونة"، أي الطرد الغذائي الذي يستلمه من "أونروا" كل ثلاثة أشهر، وتزداد كميته، كلما زاد عدد أفراد العائلة، وهذا التوزيع أو الزيادة البسيطة في المعونات، حذت بأزواجٍ كثيرين إلى حثّ نسائهم على الولادة المتكررة، وكأن الحياة الكريمة لأي إنسان لا تساوي أكثر من كيس من الطحين والقليل من الأرز والعدس، والنتيجة مزيد من الفقر والبؤس والمرض والتسرب من المدراس، وزيادة العبء على "أونروا"، كما تدّعي وتعلن كل فترة، ما يجعلها تقلص خدماتها بشكل غير عادل، ما أدى بأحد أرباب الأسر إلى محاولة حرق نفسه أمام أحد مقراتها في غزة، حين قُطعت هذه المعونات عن عائلته.
أفقت من أفكاري هذه، حين قالت لي زوجة سالم، في توجس: والله يا أختي خايفة القرش يجري في إيده ويتجوز علي.
لم أتمالك نفسي، وصحت بها: حتى أنت يا بروتوس.

 

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.