حجر ملوَّن من مستوطنة

03 يوليو 2016
(أنس عوض/العربي الجديد)
+ الخط -

الحجر الملوّن الذي يبدو بقايا جدار يربض في الفاترينة في صدر الصالون، يقترح أنه بات شيئاً من الماضي، ويشير بهوس الطغيان الذي كان جزءاً منه إلى أن حكايةً ما طوت إحدى صفحاتها، وأن ثمة حجارة كثيرة يمكن لها أن تكون في المستقبل جزءاً من الذكرى البشعة عن هذا الألم.

تماماً كما يمكن تخيل ظلال الجنود الباهتة في شارع صلاح وهم ينصبون متاريسهم أمام مداخل المستوطنات "اللي كانت" يُقطّعون أوصال القطاع ويحوّلون حياة ساكنيه إلى جحيم. الظلال الباهتة لبيوت المستوطنات، بقايا خوذ الجنود المتحللة في سوافي الرمال، السارية القديمة مكان حاجز "محفوظة"، بقايا الحكايات المتسرّبة عبر دهاليز النسيان الأبدي، التذكر بما هو عليه طريق للنسيان، الألوان النازفة على الحجر، كلها تحمل على بعض التفاؤل في الحكاية.

إنها الحكاية المشتهاة حيث تصبح البيوت الغريبة التي لا تمتّ بصلة إلى رائحة الأرض نتوءات حجرية تشوّه منظر الطبيعة.

لقد كان هيرمان ميلفل، يذكره العرب بروايته "موبي ديك"، أول من أشار في ملحمته الشعرية في نهايات القرن التاسع عشر إلى بشاعة بيوت المستوطنات اليهودية في فلسطين وهي تسيء لمنظر الطبيعة الخلّاب وتبدو غريبة. في ذلك الوقت كتب ميلفيل ملحمته المكونة من 18 ألف بيت بعنوان "كاريل: قصيدة ورحلة حج" تحدث فيها عن رحلة حج تقوم بها متدينة إلى الأراضي المقدسة.

ليس هذا بيت القصيد، إذ إن الغرابة التي تتميز بها المستوطنات وهي تنغرس في جسد الأرض الفلسطينية تعزز الانطباع بأنها زائلة. كانت جدتي لا تتوقف عن اشتمام رائحة يافا في غرفتها الصغيرة في المخيم. كل شيء كان يقول لها إن يافا قريبة. قريبة من روحها بالطبع، لكنها أيضاً من أنفها.

لا شيء بقي الآن مما كان يعرف بالمستوطنات في قطاع غزة. حتى أسماؤها اختفت من قاموس الناس فلم يعد ثمة إشارات لها ولا حتى في الذاكرة. ليس لأن الناس، في لحظة مضت، استخدموا أسماءها اليهودية، بل كل ما في الأمر أن الحواجز ومواقع الجيش والألم النازف في روحهم كان يشير إلى حالة الاغتصاب باسمها. الآن لا شيء يشير إلى ذلك الماضي، إلى حالة الحصار التي تعيشها غزة.

أخذت المستوطنات من قطاع غزة أخصب أراضيه وأجمل شواطئه، لكنها ذهبت وظلّت الأرض وظلت الشواطئ. كان منظرها، ممتدة على بحر خان يونس وبيت لاهيا ورفح أو واقفة بتوتر على صدر الطريق العام الرابط بين غزة ودير البلح (صلاح الدين)، يشير إلى الكينونة المؤقتة لها. تماماً مثلما يمكن لمنظر البنايات الغريبة فوق تلال نابلس والخليل وطولكرم أن تقترح وبقوة، فهي ليست من المكان.

لست بحاجة للاستعانة بوصف ميلفل ولا للتحديق بعناد في الحجر من بقايا جدران المستوطنة شمال قطاع غزة لتتأكد من ذلك. لست بحاجة للخشوع في محراب عنادك حتى تشم رائحة يافا في حديث جدتك، فتعرف أن ما خلاها زائل، لأن الغزاة مرّوا وظلت البلاد. لست بحاجة إلى شيء سوى أن تعيد سرد الحكاية لتتأكد من امتلاء متونها بالعابرين يحملون أسماءهم ويمضون.

الحجر الملوّن الذي حملته معي للبيت في غداة رحيل المستوطنين عن قطاع غزة عام 2005 من بقايا جدار أحد البيوت فيما كان يوماً مستوطنة عابرة في ذاكرة المكان، هذا الحجر لا يشير إلى المستوطنة التي كانت، بل إلى حقيقة ما بعد المستوطنة، حقيقة تقول إنها ستصبح مجرد حجارة مهدمة، أما بيوت الفلاحين في منطقة المواصي أو خصاصهم على تخوم حقول التوت الأرضي عبر بيت لاهيا، وحدها عبرت الزمن وبقيت بعدما زالت المستوطنة.


(كاتب فلسطيني/ غزة)