حصار غزة وانتصارها
في غزة، ليس الحصار هو الأهم، إنما النسيان. في غزة، ليس فقط الصواريخ، إنما الرياح والأمطار. في غزة، يعاقب الله البشر جميعاً بما فعلوا. في غزة، لا شريعة ولا دين يفسر قلوب من حاصروها.
فتلك المرأة السبعينية التي سقاها الجندي الإسرائيلي آخر قطرة ماء، إنما ينفذ شريعته للمحكوم عليهم بالإعدام عن آخر أمانيهم.
إلى متى تظل الأفكار البشرية مشوهة. فالحصار شريعة في تاريخ البشر، ليس بالأمر الغريب حصار غزة، فنبوخذ نصر حاصر صور ثلاثة عشر عاماً، بعد أن هزم المصريين الذين هبّوا لنجدة أهل مملكة يهوذا. وطروادة كذلك حاصرها الإغريق عشرة أعوام، وجسّد التاريخ حصارها بإلياذات ليس واحدة.
الحصار في عرف العسكر والسياسة أمر مشروع، ما دام يحقق رغبة الأقوياء. لن يهبّ لنجدة غزة أحد، كما فعلوا لمملكة يهوذا. لن ينقذ غزة أحد، ولا حتى الجيش العثماني الذي يجسد حالة اللاهوية واللاعمق، فتركيا التي تتأرجح بين الغرب والشرق في أشد الحاجة لإعادة هيمنتها، فهي لا تستطيع أن تكون جزءاً من مكون عرقي بالضبط، كما إيران الفارسية لا يوجد لها عمق عرقي. وبالتالي، تراهن على عمق ثقافي وديني، كما فعل الشيوعيون في التاريخ الحديث. إن هاتين الدولتين، وخصوصاً تركيا التي تواجه هذا الرفض لدخولها الاتحاد الأوروبي، تحولت دراماتيكياً إلى الشرق، وبدأت ملامح التدين مشروعاً له عمق، ويمكن المراهنة عليه، لقيادة أمبراطورية جديدة، فهي الأجدر بذلك، من وجهة نظر تركية، مخالفة بذلك فكر أتاتورك الذي يعتمد على البعد الحضاري والقرب الجيوغرافي لأوروبا، لتصبح تركيا جزءاً وليس قائداً، وإنما في المشروع الآخر، تركيا قائد وليس جزءاً.
صراع اليوم ليس صراع موارد، فكل الدول المتصارعة ذات اكتفاء جيد، وتصنيع جيد من إيران وتركيا وإسرائيل. صراع الأسواق أمسى جلياً بعد تدرج الأمور زمنياً، ففي الفترة السابقة، كانت اتفاقية كامب ديفيد في 1978، وأتاحت لأميركا وأوروبا الفرصة الزمنية لتأسيس قواعد استهلاكية قوية في هذه المنطقة، ليس فقط، بل توسعت هذه القوى، وحاربت الاتحاد السوفييتي في مناطق نفوذه، وبالفعل، خسر كل الأسواق في المنطقة.
يدرك الأميركي والاوروبي أن هذه المناطق لم تعد مناطق نزاع، قد تكون هذه الدول طرفاً فيها. فالمعادلة التي وضعتها الدول الاستعمارية كانت الأفضل في التاريخ، إذا استمرت كما هي.
خارطة العالم كانت كالمصفوفة أمام القوى العالمية، وفعلاً استطاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها تركيبها بطريقة جيدة من أفغانستان إلى العراق، مروراً بإسرائيل وإيران. فأميركا لن تترك إسرائيل تستفيد في سوق الشرق الأوسط، كما لن تترك أي قوى إقليمية تتحكم في المنطقة. وبالتالي، الدور الأمثل للولايات المتحدة هي ألّا تتم أي تسوية في المنطقة تضمن سيطرة مطلقة لطرف، بل نزاع يضمن وجودها صمام أمان.
حصار غزة هو محصلة هذا الدور الأميركي في المنطقة. موقف أميركي يتغير في كل الأمور، حتى موضوع السلاح النووي الإيراني، إلا حصار غزة، فهي ثابتة على موقفها تجاه مليون وثمانمائة ألف فلسطيني في غزة، أكثر من ٧٠٪ منهم أطفال ونساء وشيوخ.
نعم الحصار شرعي، حتى ولو كان من الجار العربي. فالموضوع موضوع مصلحة، ولكن ما هي مصلحة غزة؟ أظن أن مصلحة غزة أن تعرف أن المعركة طويلة، وأن الحصار ليس مؤقتاً، ولن يخدم أهلها يوماً قربهم الديني، أو الثقافي مع جيرانهم، بل المصلحة بين الجيران. فاليوم، ربما تسعى تركيا جدياً لإيجاد دور لها في رفع حصار غزة، وذلك لأنه مصلحة لها لإثبات زعامتها. بينما هو غير ذلك مع جهات أخرى قد تجد مصلحتها في الطرف الآخر.
مصلحة غزة هي أن تخرج قوية من هذا الحصار، لا منكسرة. مصلحة غزة أن تصبح أقوى مما سبق عسكرياً واقتصادياً. مصلحة غزة أن تفهم أنها لوحدها، ولا صلاح الدين لها. مصلحتها أن تستمر في تجييش شعبها، حتى يمسي جيش قوي في المنطقة. نعم مصلحة غزة في جيش واقتصاد مستقل.
مصلحة غزة أن يبقى الشعب واحداً في غزة. وهذا بالضبط ما يجب أن يفهمه من يحاصر غزة. إن كان حصارها مصلحة وطنية وأمنية لهذه الأطراف، فتجييش غزة مصلحة ملحّة لغزة وأهلها.