حفلات الطاعون الراقص

13 مارس 2018
+ الخط -
عن دار جوليار الفرنسية، صدرت أخيرا رواية "شاركوا في الرقص"، للروائي جان تولي، والتي تتناول أحداثا تاريخية حقيقية، وقعت في مدينة استراسبورغ الفرنسية في القرن السادس عشر، ولا تني، بين فترة وأخرى، تستقطب الاهتمام، لغرابتها حتما، ولكونها لم تجد إلى اليوم تفسيرا ثابتا.
تحكي الرواية أحداثا تتعلّق بذلك الوباء الغريب الذي سُمّي "الطاعون الراقص"، والذي ضرب مدينة استراسبورغ، حين كان يعاني أهلُها من المجاعة، ومن خوف وقوع حرب مع الأتراك الذين كانوا قد وصلوا إلى أبواب المدينة، ومن تقلّبٍ عجيبٍ في المناخ، حيث أثمرت أشجار الفاكهة في شهر يناير/ كانون الثاني، و ضرب الجليد فجأة في شهر مارس/ آذار، وفاض نهر الرين عن مجراه، ما أتلف الأراضي الزراعية المحيطة، ودمّر معظم الجسور الخشبية، وعزل المدينة عن كل تجارةٍ خارجيةٍ ممكنة، طوال أشهر. هكذا انتشرت الأمراض في المدينة، ومن بينها السفلس والبرص والطاعون والكوليرا، وتلك التي تدعى الحمّى الانكليزية التي لم تعد تظهر أبدا في العالم، إثر ذلك.
مع إصابة مئاتٍ من أهل المدينة بوباء الطاعون الراقص عام 1518، كان الإصلاح اللوثري (نسبة إلى القس مارتن لوثر) قد بدأ مسيرته، ونخبُ المدينة يستعدّون لمواجهته في فترةٍ مفصليةٍ تؤرّخ للانتقال من العصور الوسطى إلى بداية عصر النهضة. أما المصابون الذين كان مرضهم يدفعهم إلى رقصٍ يائسٍ، لا ينتهي إلا بسقوطهم موتى، فقد تم نقلهم إلى منطقة خارج المدينة، ولم يعرف من ثم عن مصيرهم أي شيء. بدأ الأمر بامرأةٍ افتتحت الحفل الراقص المميت، واستمرت تدور في الأحياء والساحات، وهي ترقص، خلال ستة أيام وليال من دون توقف، تبعها العشرات، ومن ثم المئات، حتى بلغوا ما يزيد عن أربعمائة مريض، نساء وأطفالا ورجالا، يستجدون المساعدة، وهم غير قادرين عن التوقف عن الحركة، فيما وجوههم مرفوعةٌ نحو السماء، وأطرافهم مبلولة بالعرق، وأجسادهم متأرجحةٌ حدّ الإنهاك، ما كان يؤدي إلى موتهم جفافا، أو وقوعا بالسكتة القلبية.
هذا وقد اعتبر أطباء ذلك الزمن أن سبب هذه الظاهرة الغريبة هو "دماء المصابين الحارّة جدا"، ما حدا بمجلس المدينة إلى أخذ القرار بمداواة الداء بما كان هو الداء، فتُرك المجالُ متاحا للراقصين ببناء حلبات رقصٍ لهم، وباستدعاء عدد كبير من الموسيقيين والعازفين لمرافقتهم، ليل نهار. هذا القرار الجاهل بأصول الحفاظ على الصحة العامة أدى إلى انتشار العدوى، ما جعل المجلس يبدّل قراره، فيأمر بتفكيك حلبات الرقص، ومنع الفرق الموسيقية من العزف، وإرسال المصابين إلى منطقةٍ أخرى تبعد مسافة يوم، سيرا على الأقدام. كل هذا لم يمنع الوباء من التفشّي بضعة أسابيع إضافية...
أكثر من خمسمائة عام مرّت على ذلك الحدث الذي ما زال يثير اهتمام الباحثين والمختصين، خصوصا وأن الوثائق والدراسات التي تناولته في حينه كانت كثيرة، ربما لأن الطباعة كانت قد اخترعت، ولأنه حدثٌ وقع في مدينةٍ كانت لها هيكلة بيروقراطية. أحداثٌ مشابهةٌ وقعت في أمكنة أخرى من العالم، بين العام 1200 و1600، كان آخرها في مدغشقر عام 1863. وقد قُدّمت تفسيراتٌ عديدة، على مرّ القرون، في محاولةٍ لشرح أسباب "الطاعون الراقص"، منها التسمّم، أرواح شريرة، سحر أسود، أو هستيريا جماعية. إلا أن أحد الباحثين، وهو جون واللر، الذي عمل عن كثب على هذه الظاهرة المرضية، يعزو الأمر إلى إيمان هؤلاء المرضى، ضعاف النفسيات، بالقصاص الإلهي، بدليل ما ضرب المدينة حينها من مجاعةٍ وفيضانٍ وحربٍ مقبلة وأمراض.
يبقى السؤال: هل يمكن لهذا الوباء أن يضرب عالمنا بعد في القرن الواحد والعشرين؟ يجيب الخبراء: لا.. لأن "التشخيص يصف حالة هيستيريا بمعنى الطبّ النفسي، ومن المعروف أن سلوكا كهذا قد يصبح معديا.. فللطب النفسي رؤية بيولوجية ونفسية للاضطرابات العقلية، إلا أنه ينسى غالبا الدور الهامّ جداً للمجموعة في بنيان الفرد، فالمجموعة قد تتحوّل إلى كيان أو إلى كائن بالمعنى الكامل للكلمة، مع تناسقٍ تام في التصرّفات والسلوكيات".
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"