العُلماء قصّاصو الحياة
تغوينا القصص التي يُؤلّفها علماء نتيجة اكتشافاتهم العلمية التي تقتضي التمتّع بمخيّلة خصبة ومرنة يمكنها تظهير "نيغاتيف" الفِكَر، وتبسيط الرؤى الأكثر تعقيداً، وإيجاد حلقات وصل بين أزمنة منسيَّة سحيقة لا تني تمضي مع تقدّم الأبحاث العلمية، فلا تستقرّ على حال ثابتة فتعاد كتابة نهاياتها إلى ما لا نهاية.
تعرفون الجَدّة لوسي بالطبع، وهو اسم الرفات الذي تمّ اكتشافه في إثيوبيا منذ أكثر من 40 عاماً، بل إنّه ما تبقّى من هيكل عظمي (40%) اعتُبر الجَدَّ الأقدم المعروف للإنسان القديم، وقد تبيّن أنّه لأنثى شابّة بالغة أطلق عليها اسم لوسي. الاسم هذا كان القطبة الأولى في قماشة قصَّتها، فهي عاشت في أفريقيا (الحبشة) من حيث يتحدّر البشر الأوائل، وكانت تسير على اثنتَين لأنّ قدميها شبيهتان بساقي طفل، وهي كانت تتسلّق الأشجارَ وتعيش فيها وتنتقل من مكان إلى مكان. حتّى إنّنا تعرّفنا إلى سبب مماتها، إذ قدّر العلماء أنّها غرقت، إلى أن جاء من نقض هذا الافتراض، وقال إنّها سقطت من على شجرة بارتفاع 12 متراً، وهي تحاول بلوغ ثمرة.
قال الباحث جون كابيلمان إنّه يراها بشكل مختلف "شخصاً تُوفّي، وليس رمّةً من عظام". أيضاً، صنع لها الكومبيوتر وجهاً، وصوتاً، وطريقة حركة، فباتت شخصيةً بكلّ ما تملك الكلمة من معنى. لوسي صغيرة القامة (107 سنتيمتراً) وزنها لا يعدو ثلاثين كيلوغراماً، تتبع كجنسها من الأسترالوبيثكس (شبيه الإنسان الأسترالي) نظاماً غذائياً نباتياً، بالإضافة إلى النمل الأبيض وبيض التمساح. أمّا الاكتشاف العظيم الذي مثّله هيكلها، فهو وضعية حوضها وركبتيها وكاحليها، التي تشير إلى أنّها كانت قادرةً على المشي، وهي مَلَكة اختصّ بها، حتّى ذلك الحين، جنس هومو (الإنسان) في مختلف تنويعاته، وهو ما اعتبر اكتشافاً للحلقة المفقودة بين القردة والإنسان.
لقد اعتُبرت لوسي مدّةً طويلةً جَدّة البشرية (عمرها ثلاثة ملايين ومائتا ألف عام) وأقدم إنسان منتصب اكتُشف، مع أنّه جرى العثور على 13 هيكلاً آخرَ من جنسها، فكان أن أقامت في مخيّلتنا الجماعية بوصفها أولى حلقات سلسلة الكائنات التي نتقاسم معها الجينات. إلّا أنّ اكتشافاتٍ لاحقةً في آخر سنوات أنزلتها من مرتبتها تلك، وجعلتها مُجرَّد صبيّة من أبناء عمومتنا البعاد، وذلك إثر العثور على أنواع أخرى من أشباه البشر عاشت على مسافة 35 كيلومتراً فقط من الموقع حيث وجدت لوسي، وهو ما قوَّض النظرية القائلة بأنّ أسترالوبيثكس أفارينسيس هو سلفنا المباشر.
في مستوىً آخرَ، نشرت المجلة العلمية الفرنسية Sciences et Avenir الشهر الفائت مقالاً عن اكتشافٍ مذهلٍ لمقاطعَ من مسرحيَّتَين ضائعتَين ("إينو" و "بولييدوس") للمؤلف المسرحي الإغريقي الأشهر في العالم القديم (مع سوفوكليس وإسخيلوس) يوريبيدس، الذي نعرف له اليوم 19 مسرحيةً، في حين ألّف نحو 95 عملاً عُلم بوجودها بفضل جردةٍ تُعدّد عناوين المسرحيات، وتُورد مُوجَزاً عن موضوعاتها. المقاطع مكتوبة باللغة الإغريقية على ورقة بُردى مربّعة (27 سنتيمتراً مربّعاً) أكبر حجماً من الأوراق المُستخدمة آنذاك، ومحفوظة بشكل جيد. أمّا المذهل حقّاً فهو المكان حيث وجدت؛ مدفن متواضع شمال شرق الفيّوم (يبعد 85 كلم من القاهرة)، عائد إلى القرن الثالث، لسيدة عمرها بين 40 و45 عاماً، وبقربها مومياء طفل صغير. أما دارسو المخطوطة والمتحقّقون من أصالتها، فقد صرّحوا: "لا نعرف إن كانت قد وضعت هنا لهدف ما، أو أنّها أضيفت مع أغراض أخرى لملء القبر... من الممكن أن تكون الريح قد حملت أوراق البُردى التي كانت تُجمع بهدف التحنيط، فوجدت في المدفن صدفة، مع العلم أنّ بعضهم يُودّون إيجاد علاقة أوثق بين المخطوطة والموتى".
نعم، ونحن من هؤلاء! بانتظار أن ينجلي سبب وجود مقاطع مسرحية يونانية ليوريبيدس في قبر سيّدة مصرية.