موتى "فيسبوك"
موتى "فيسبوك" لا يغادرون صفحاتهم. هناك تبقى مثل بيوت خالية من أصحابها، نمرّ عليها دقائق لنستذكر، لنرى ونحن على غير يقين، إن كانوا قد تركوا رسالةً ما، أو لنتأكّد مجدَّداً من موتهم وفراغ صفحاتهم من أيّ جديد. ثمّة من يستذكرهم من حين إلى آخر، فيضع تعليقاً صغيراً بمناسبة عيد ميلاد، أو بسبب تذكير "فيسبوك" إياه بعمر صداقة افتراضية، أو تأكيداً لعدم النسيان، وعلى استمرار وجود الشخص في وجداننا، وإن غاب.
وموتى "فيسبوك" يعيشون في مكان ما، كأنّهم معلّقون بين سماء وأرض، كأنّ لهم سماؤهم الخاصّة، هناك، حيث يتلاقون ربّما ويتراسلون ويتحاكون، بل إننا في بعض الأحيان، لدى المرور بصفحة صديق متوفَّى، يخيّل إلينا أنه واقف هناك، خلف الشاشة، ينظر إلى وجوهنا بمثل ما ننظر إلى غيابه، متمنّياً بشدّة أن نترك له كلمةً ما، بل ربّما يخاطبنا فلا نسمعه، وينادينا فلا نجيب. ربّما يقرع على مربّع الزجاج هاتفاً: "أنا هنا، أنظروني، اسمعوني"، لكنّنا، ونحن تأتينا تلك الخاطرة، نبتسم هازئين من أنفسنا كيف أننا تخيّلنا الأمر ولو لثانية، وكيف سمحنا لأوهام بائتة أن تقتحمنا في لحظة تأمّل واستذكار، مفوّتين (من دون أن نعلم ربّما) فرصةَ التواصل مع روح صديق تقبع روحه مستوحشةً خلف مربّع الزجاج.
أصدقاؤنا الموتى، الذين نشروا صورهم وأفكارهم وكلامهم ومشاعرهم في الصفحات الافتراضية، يستمرّون بعد رحيلهم في العيش في ذلك الفضاء، إلى متى؟ ... لسنا ندري؛ حتى نهاية الحياة، حتى انفجار الكوكب وانطفاء الشمس، أو حتى قرار زوكربيرغ إنهاء عالمه الافتراضي بجرّة ممحاة؟ لكنّهم، وحتى ذلك الحين الذي يبدو الآن بعيداً، سيظلّون موجودين متى اشتقنا إليهم، متى قرصَنا الحنينُ وانتابتنا الغصّة وضاقت بنا الحياة، فافتقدناهم أكثر ممّا تحتمله أيّامٌ مقسّمة وموزّعة بالتمام، إذ لم يعد هناك متّسع للحظات شجن، أو صمت، أو استعادة لمن لم يعودوا بيننا.
في صفحاتهم قد نجد مادّةً لكتابة سِيَرهم، بعضاً من مسيرتهم ومواقفهم وآرائهم، لكن أترانا نظهر فعلاً على حقيقتنا في تلك الصفحات؟ هل نحن فعليا نحن، هناك؟ أم أننا تشكيلات مدروسة ومشغولة لما نحبّ أن نكون أو أن نظهر عليه؟
"فيسبوك" (والمواقع الأخرى المشابهة) انتشر فينا كالعدوى، فانصاع جميعنا تقريباً لقوانين دنياه لكي نتحصّل على بطاقات تعريف جديدة، هُويَّات مغايرة، كينونات متجدّدة يمكن العمل عليها وتطويرها كلّ يوم، بالإضافة والحذف والتجديد والتعليق. نحن نرمي في الصفحة "الستاتوس" كمن يرمي حجراً فوق سطح مياه راكدة، منتظرين أن نرى كم سيُحدِث من ارتجاجاتٍ وتموّجاتٍ ودوائرَ تتسّع وتبعد تدريجياً لتطاول الأصدقاء كلّهم. "اللايكات"، وعددها بات معيارنا الجديد للنجاح، بل أبعد من ذلك، إنه مقياسنا للوجود. قل لي كم "يليّكون" لك، أقل لك كم أنت موجود. سطوة "المُلَيِّكين" وشقاء من لا "يُليَّك" لهم. ثراؤك بات بعدد متابعيك، حتى أن كلمة جديدة اجتُرِحت بفعل ذلك: "إنفلونسرز"، أي مؤثرين، فإما أنت فاعل أو أنك مفعول بك.
موتى "فيسبوك" غادروا مجدّاً باطلاً غير مأسوف عليه، ينظرون من عليائهم إلى تفاهاتنا نحن الأحياء، اللاهثين خلف مجد إصبع مرفوعة تغذّي غرورنا، وتؤكّد لنا وجودنا في خريطة العالم الافتراضي، وقد استبدلناه بالعالمَ الحقيقي. شيء من بقاء صفحاتهم ماثلة لنا، ومن بقائهم في تلك الصفحات، يشبه مجداً آفلاً، تكسوه الحسرةُ ويكلّله الغبار، وجوداً كان بسفوره المزعوم يخبرنا عن تمظهرات الشخص لا عن شخصه، عن ملابسه وابتساماته وحفلاته الصغيرة واحتفالاته، يومياته العادية التي سعى جاهداً لأن يُكسبها تمايزاً أو سحراً.
وإذ أشتاق أصدقاءً غادروا، أعود إلى صفحاتهم لأجالس ظلالَهم دقائق أو ساعات. أكتب إليهم تعليقات طويلة، ثمّ حين يُفرّغ القلبُ حمولَته ويكتمل القول، أمحو ما كتبت. ما يهمّني هو أن يقرأوني هم، هم فقط من خلف شاشات كومبيوتر كونيّ توفّره لهم السماء.