في العام 2004 نشرت دار "بروميثيوس" الهولندية رواية متوسطة الحجم تحمل عنوان "برافيون" لكاتب شاب من أصل مغربي يدعى حفيظ بوعزة (مواليد وجدة المغربية، 1970). وما لبثت الرواية أن فازت بجائزة "البومة الذهبية" التي يتنافس عليها كل عام العديد من كتّاب الرواية باللغة الهولندية في هولندا وبلجيكا.
اليوم، وبعد مرور عشر سنوات على صدور "برافيون"، يعيد حفيظ بوعزة اسمه إلى الصدارة من خلال روايته الجديدة "Meriswin" التي أثارت من الضجة والنقاش في الأوساط الأدبية الهولندية والبلجيكية ما يكفي لنتوقع حصولها على جوائز أخرى. والسر في هذه الزوبعة هو موضوع الرواية (208 صفحات) الذي يعالج موضوع إدمان كاتبها على الكحول والمخدرات.
يكتب بوعزة أعماله الروائية والقصصية صانعاً جديلة سردية تقف على الدوام بين برزخي السيرة الذاتية والتخييل. وها هو يكشف في نصّه الجديد تفاصيل أكثر عن إدمانه المعروف، واقترابه الحثيث من الموت بعد إصابته بنزيف حاد. تجربة أدخلته المشفى ثلاث مرات، واتخذها بوعزة لتكون عالماً فانتازياً وآسراً في رواية "Meriswin".
بوعزة الذي يبلغ من العمر اليوم 44 عاماً، يعاني من تليّف حاد في الكبد، ومن وزنه الذي ازداد بشكل كبير جراء أزماته الصحية الأخيرة. وعلى ضوء هذه المعطيات نفهم ابتكاره في روايته الجديدة لراوٍ يهلوس بشكل دائم، ويكتب عن ذكريات مراهقته بمحبة كهلٍ يودّع سنوات عمره التي مرت سريعاً، عن المرأة التي أحبّها، عن بيته الصغير في قلب أمستردام، عن المقاهي والبارات التي قضى فيها الكثير من الوقت في حالة من الغياب المتعمد عن الواقع المحيط به، عن اللون الأسود الذي لا يرتضي غيره لأي شيء يرتديه، عن جذوره المغربية؟ لا، لا يأتي على ذكر هذه الجذور في عمله الجديد: "حين أرى نبتة جميلة أهتم بها، ولا أفكر في البذرة التي كانت سبباً في وجودها".
مثل عنوان رواية "برافيون"، تصعب ترجمة عنوان روايته الجديدة. فالكلمة "Meriswin" لا وجود لها في اللغة الهولندية. وإن كانت الحروف الثلاثة الأخيرة منها "win" تشير في إحدى اللهجات الفلمنكية إلى الإدمان على النبيذ، إلا أن بوعزة يوضح في أحد حواراته أنه لم يفكر في هذا التفسير، وإنما اختارها لأن الكلمة في اللغة الألمانية القديمة تعني الدولفين. وهو يوظف كلمة دولفين في نسيج روايته ويربطها بحالة الإدمان.
"رجل يُنقل إلى المشفى وهو يعاني من حالة هذيان غير قابلة للسيطرة، ومن نزيف حاد نتيجة ارتفاع ضغط الدم المفاجئ؛ نزيف دموي ينفجر في صورة مروعة بين ساقيه متدفقاً إلى الخارج، في صورة طوفان من البنفسج والهيموغلوبين". بهذا المفتتح يُدخل بوعزة القارئ إلى روايته التي تتعدد أجزاؤها ليتخذ كل منها شخصية وشكلاً مغايراً للآخر. فالقسم الأول يأتي في صورة تداعي شِعري طويل يمدح حالة الشرب، ثم يتحول إلى تقرير طبي يشرح ويفنّد حالة الإدمان المصاب بها بطل أو كاتب الرواية، وينتهي بقصة حب سحرية وإيروسية يعيشها بطل العمل مع إحدى الممرضات اللواتي يسهرن على رعايته حتى يتم شفائه.
كثير من النقاد في هولندا يقفون أمام كتابة بوعزة مفتونين بلغته الهولندية المرصعة بسحرية عربية لا فكاك منها، سحرية مغايرة تماماً لسحر "ألف ليلة وليلة" التي فتن بها العالم الغربي طويلاً من باب النظرة السياحية والاستشراقية المسيطرة حتى اليوم ـ إلا في ما ندر ـ تجاه أي كتابة تحمل جذوراً عربية. وهو ما يوضحه بوعزة بقوله: "أرفض أن يُنظر إلى كتابتي على أنها كتابة عربية، فأنا كاتب هولندي يكتب عن عوالم مختلفة ومغايرة للعوالم التي ينشغل بها كُتَّاب اللغة الهولندية. وأعتقد أن المشكلة لا تكمن في اختلاف ما أكتبه بقدر ما تكمن في النظرة التي يُنظر إلى كتابتي من خلالها، لمجرد أنني أحمل اسماً مختلفاً، ما يترك في الآخرين هذا الإحساس الاستشراقي الذي أرفضه".
في روايته الجديدة، يعيد بوعزة تقديم مدينته الأثيرة أمستردام بشكل يثير دهشة الهولنديين أنفسهم، فيكتب الناقد الهولندي "يسسه فان امليسفورت": "يكتب بوعزة مدينتنا التي نعرفها جيداً، وحين نقرأها لديه نجدها أجمل وأكثر سحراً مما نراها عليه كل يوم. يمتلك هذا الكاتب القدرة على إدهاشنا في كل مرة يتناول فيها أمستردام لنكتشف أنه يصنع مدينته هو ويقدمها إلينا، فيزيد حبنا لها أكثر فأكثر. أمستردام لدى بوعزة مدينة من نور وليل لا ينتهي وسحر خاص وحالة خدر تجتاح العالم فلا يفيق إلا مع الصفحة الأخيرة من الرواية".
بدأ حفيظ بوعزة مشواره الأدبي في العام 1996 مع مجموعته القصصية "قدما عبد الله"، ثم نشر روايتين قصيرتين هما "مومو" (1998) و"سالمون" (2002)، ونصّاً مسرحياً بعنوان "أولين" (1998). وفي العام 2004، صدرت روايته "برافيون" لترسّخ حضوره في المشهد الأدبي للغة الهولندية، بحصولها على جائزة "البومة الذهبية". وبعد صمت استمر خمس سنوات، أصدر عام 2009 رواية "طائر السخرية" التي لم تلفت انتباه النقاد، بخلاف روايته الجديدة التي أثارت زوبعة من المقالات والتعليقات، لم تهدأ بعد.