22 ابريل 2017
حقيبة أمي ووطننا الكبير
يسرى السعيد (سورية)
تجاوزت الأربعين من عمري، ولازلت أذكر التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي تربطني بأمي، فقد كنت من صغري أتلهف لمعرفة محتويات تلك الحقيبة التي تباركها يد أمي، حين تخرج من المنزل، وتتحفظ عليها في مكان خاص ترنو عيوننا للوصول إليه.
لم تتعلّم أمي يوماً، ولا تتقن كتابة الحرف، لكنني كنت أستمتع بدروسها أكثر من متعتي بالدروس التعليمية، وكانت تعتبرني طالبتها المفضلة، وكلّما مدّت يدها إلى حقيبتها، أصابني ما يصيب كلب بافلوف من منعكس عصبي، فيسيل لعابي وتجحظ عيني استعداداً لتلقي أفخر أنواع السكاكر وألذها، وكنت دائماً أعتقد أنّ حقيبة أمي هي الحافز الذي يربطني بثقافة الحياة، والذي ابتكرته أمي لتقنعني بالتفوّق.
وكنت أدرك أنّ حقيبتها تضم أشياء كثيرة ستفاجئني بها تباعاً، وبما يناسب تطوّري العمري، كما تقول، وكنت أتلهف لأن أكبر، وأرمق حقيبتها السوداء اللامعة والقصيرة اليد، والتي لم تغيّرها أمي، وفاء لها، ولأنّها لم تكون تهوى التغيير.
عندما كبرت، وسمحت لي أمي أن أفتح حقيبتها، لم أجد ما كنت أظن أنني سألقاه، وأغرقتني صوري مع صور أخواتي، حين كنّا صغاراً، وصور أمي في صباها، وهي ترتدي أزياء الموضة الجميلة والخاصة بعصرها، أمي كانت وستبقى جميلة.
لم أكن أعرف أنّ حقيبة أمي تسع كلّ ماضينا وحاضرنا، ووحدها أساور الذهب التي لم تكن أمي ترتديها، أو تفصح عنها علمتني أنّ في الحقيبة مستقبلاً آمناً أيضاً، وبعدها غابت أمي، وغابت حقيبتها وتسمّر الزمن عند آخر ما قالته أمي لي: قلبي سيظل معك فلا تخافي.
واليوم، حين أذكر تلك الحقيبة، أدرك أنّ أمي اختزنت ذاكرتنا في حقيبتها خوفاً من الضياع. والآن، وبعد أن مرّت سنوات الحرب بنا، (ولم تكن أمي معي) فهمت أنّ ما يمكن أن يبقى للإنسان، بعد كلّ ما يشقى بجمعه وشرائه، محض حقيبة تحضن ذاكرته، وأوراقه وماضيه وربما مستقبله، وهذا ما خرج به سوريون كثيرون من منازلهم، محض حقيبة، وذكريات كثيرة.
نعم؛ اكتفى السوريون بحقيبة واحدة، يدركون معها أنّ سفرهم وتهجيرهم ورحيلهم لا يتسع لأكبر منها، يتناسون ربما أنّ ما حملناه في قلوبنا هو وطن شاسع، لن تسعه كلّ حقائب السفر، ولن تختزله كلّ رحلات السفر.
لم تتعلّم أمي يوماً، ولا تتقن كتابة الحرف، لكنني كنت أستمتع بدروسها أكثر من متعتي بالدروس التعليمية، وكانت تعتبرني طالبتها المفضلة، وكلّما مدّت يدها إلى حقيبتها، أصابني ما يصيب كلب بافلوف من منعكس عصبي، فيسيل لعابي وتجحظ عيني استعداداً لتلقي أفخر أنواع السكاكر وألذها، وكنت دائماً أعتقد أنّ حقيبة أمي هي الحافز الذي يربطني بثقافة الحياة، والذي ابتكرته أمي لتقنعني بالتفوّق.
وكنت أدرك أنّ حقيبتها تضم أشياء كثيرة ستفاجئني بها تباعاً، وبما يناسب تطوّري العمري، كما تقول، وكنت أتلهف لأن أكبر، وأرمق حقيبتها السوداء اللامعة والقصيرة اليد، والتي لم تغيّرها أمي، وفاء لها، ولأنّها لم تكون تهوى التغيير.
عندما كبرت، وسمحت لي أمي أن أفتح حقيبتها، لم أجد ما كنت أظن أنني سألقاه، وأغرقتني صوري مع صور أخواتي، حين كنّا صغاراً، وصور أمي في صباها، وهي ترتدي أزياء الموضة الجميلة والخاصة بعصرها، أمي كانت وستبقى جميلة.
لم أكن أعرف أنّ حقيبة أمي تسع كلّ ماضينا وحاضرنا، ووحدها أساور الذهب التي لم تكن أمي ترتديها، أو تفصح عنها علمتني أنّ في الحقيبة مستقبلاً آمناً أيضاً، وبعدها غابت أمي، وغابت حقيبتها وتسمّر الزمن عند آخر ما قالته أمي لي: قلبي سيظل معك فلا تخافي.
واليوم، حين أذكر تلك الحقيبة، أدرك أنّ أمي اختزنت ذاكرتنا في حقيبتها خوفاً من الضياع. والآن، وبعد أن مرّت سنوات الحرب بنا، (ولم تكن أمي معي) فهمت أنّ ما يمكن أن يبقى للإنسان، بعد كلّ ما يشقى بجمعه وشرائه، محض حقيبة تحضن ذاكرته، وأوراقه وماضيه وربما مستقبله، وهذا ما خرج به سوريون كثيرون من منازلهم، محض حقيبة، وذكريات كثيرة.
نعم؛ اكتفى السوريون بحقيبة واحدة، يدركون معها أنّ سفرهم وتهجيرهم ورحيلهم لا يتسع لأكبر منها، يتناسون ربما أنّ ما حملناه في قلوبنا هو وطن شاسع، لن تسعه كلّ حقائب السفر، ولن تختزله كلّ رحلات السفر.
مقالات أخرى
04 فبراير 2017
29 ديسمبر 2016
30 سبتمبر 2016