حكايات للدموع في عرس سوري
لم يكن يخطر في بال أحد منا، قبل أربع سنوات، نحن في عائلتنا الصغيرة، أن يكون العرس الوحيد لإحدى بنات العائلة، في تركيا، وفي مكانٍ تشبه طبيعته الجغرافية قرانا في الساحل السوري، وأن تنحصر الكلفة الأغلى للعرس في تذاكر الطائرات للقادمين القلائل من خارج تركيا. كانت أمي، السيدة في أعوامها السبعين، تحلم أن ترى واحدةً من بناتها في الثوب الأبيض، ولم نحقق لها، أنا وشقيقتي، هذا الحلم في شبابها.
تقول: الأحفاد الأغلى من الأبناء أحيانا يفتحون لك باب الأحلام، أمي التي قدمت من طرطوس، عبر بيروت مباشرة إلى أضنة في تركيا، ثم إلى غازي عنتاب، لترى ابنتيها وحفيدتها، بعد سنتين ونصف من الغياب، ثم تراقب الطريق من غازي عنتاب إلى مرسين وآياش، حيث سيكون العرس. يذهلها تشابه الطبيعة بين البلدين، وتتذكر أن جزءاً من هذا المكان كان جزءاً من سورية. كانت صدمتها موازيةً لسعادتها، وهي ترى عدداً كبيراً من أجمل الشباب السوري يقيمون خارج بلدهم، وتسمع قصصاً وتفاصيل إنسانية، لا يقدمها الإعلام، الموالي والمعارض، الإعلام الذي يصور السوريين، كما لو أنهم في حالة ترابط وثيق مع الدم، بحيث تصبح شهوة القتل والانتقام ركيزة حياتهم.
تقول حزينة: لا ينتبه الناس في طرطوس إلى هول المأساة السورية، يحصرون مأساتهم في فقد شبه جيل كامل من شبابهم في الحرب، لكنهم ينسون أن هول مأساتهم وفظاعتها مرتبطة بهول المأساة السورية كلها، وبكل هذا الخراب الذي لم ينج منه أحد، لا جسدياً ولا نفسياً ولا مادياً.
في العرس، تراقب أمي شباب سورية وصباياها في أبهى حالاتهم. تنظر إلى فرحهم المؤقت، تشاهد لمعان نظراتهم، وتلمح ذلك الانكسار الخفي لصعود أحلامهم، وتمسح دموعها الصامتة، ثم أعرف أنها، في سرها، تقول، كما أقول أنا: نحن جميعنا تثقل أعناقنا جريمة الصمت والتواطؤ على التدمير البطيء الذي حصل للمجتمع السوري، عبر عقود طويلة. ثم تذهل أمي وتبتسم وتبكي وتضحك، وهي تستمع إلى الشباب، يحدثونها عما لاقوه في المعتقلات، وعن طرق خروجهم من سورية، وعن مواصلتهم العمل لإعانة من تبقى من السوريين في المناطق المنكوبة في سورية، حيث تقيم أسرهم وعائلاتهم وجيرانهم وأهل بلدهم.
تبكي أكثر، وهي تستمع إلى هند، صديقة عمري القادمة من بيروت، وهي تحكي بهدوء عن اعتقالها الطويل، واعتقال ابنتها واستشهاد شقيقها وابن شقيقها، وعن خسارتها كل ما كانت تعنيه حياتها في درعا، وتكاد تذوب قهراً، وهي تسمعها تشرح أن المحبة بين الجميع هي ما ينقذ سورية، وأن لا خيار للسوريين سوى بتحقيق العدالة، وبناء عقد اجتماعي جديد، يمكّن من تبقى من أبنائهم من مواصلة الحياة في سورية المستقبل، مهما كان المستقبل حلماً عصياً على التحقق.
في الليل، تستمع أمي إلى سمر، القادمة من دمشق، وهي تحدثها عن تآلف الدمشقيين مع القذائف والضرب والموت اليومي، وعن معرفتهم بمن يطلق القذائف من جهة الدمار الذي تسببه.
وتحدّثها عن النازحين في الحدائق والمدارس والأقبية، عن الغلاء والجوع وعن تدمير ريف دمشق وتجويع سكانه، ريف دمشق، الغوطة التي كانت توزع خيرها على سورية كلها.
أرى أمي تطرق برأسها إلى الأرض، كمن يرفض الاستماع والتصديق، ثم ترفعه بقوة وتنصت أكثر إلى الشاب الحمصي الذي يسرد الحكايا عن حمص، منذ اعتصام الساعة الشهير، وعن المجازر والتحريض الطائفي والكتائب الممولة بمال سياسي، حمص التي عاشت فيها أمي جزءاً كبيرا من طفولتها وشبابها، وتقف كدمعة كبيرة على خدها الأيسر. ثم تتلاطف مع الصبية الكردية التي تحكي عما عاناه كرد سورية منذ عقود، وعن مآسيهم الآن، ومحاولات تهجيرهم من قراهم، عبر تسليط متطرفي الكرد المتعاونين مع النظام والكتائب الإسلامية المعارضة عليهم.
وتسمع أمي من الشاب القادم من السويداء، كيف هرب من الخدمة الإلزامية، لكي لا يرى نفسه أمام خيار القاتل أو المقتول، ومن الشاب الفلسطيني عن حصار مخيم اليرموك، وقصفه بالطائرات وتهجير سكانه وقتلهم، وتسمع وتسمع وتبكي وتضحك وتبكي، ثم ترى نينار بفستانها الأبيض، تنزل من غرفتها، يرافقها فادي، ابن خالتي القادم من باريس، هو وحلا أختي، ليسلمها إلى كنان، عريسها الدمشقي الشاب الوسيم، وتبدأ مراسم العرس بعراضة شامية، ثم بأغنيات ساحليةٍ ودبكةٍ كرديةٍ وأهازيج من جبل العرب، بينما أصحاب المكان الأتراك الذين أصبحوا جزءاً من حالة العرس السوري، بكل تفاصيله، يحكون لأمي بلغة إنكليزية مكسرة، وببعض الكلمات العربية، عن أردوغان وبشار الأسد والسياسة والإسلام والتطرف والعرق التركي، وعلاقة التاريخ بين السوريين والأتراك على الرغم من أنف السياسة.
تلتفت أمي إلي، وتقول لي: يا لأوهامنا الكبيرة، ويا لخديعتنا الأكبر بالعروبة والقومية والوطن، ويا للقهر ألا تكونوا جميعاً في سورية، الآن، وأن ترفض دول ما تسمى العروبة دخول السوريين إلى أراضيها، وأن تضيق بلاد العرب بالسوريين الذين استقبلوا العرب بقلوبهم وأرواحهم قبل بيوتهم.
بعد يومين، نودع أمي في مطار أضنة، برفقتها رويدة ونوار في عودتهم القلقة إلى طرطوس، ونودع هند في طريقها إلى بيروت، وسمر إلى دمشق، وكيندة إلى عمّان، وحلا وفادي إلى باريس، وأنا إلى القاهرة، ونترك شباب سورية وصباياها بين أنطاكيا وغازي عنتاب وإسطنبول، محاصرين بحلم العودة إلى الوطن الذي أصبح طللاً حزيناً، أو الهجرة الخطرة عبر البحر نحو أوروبا، بينما دموع نينار العروس، وهي تودع الجميع، تصبح كما حبات الألماس فوق ثوبها الأبيض الذي سيبقى طويلاً شاهداً على عرسٍ، لا يشبه أي عرس آخر، عرس سوري بفرح سوري وحزن سوري ودموع سورية في فندق صغير جداً على البحر في قرية آياش التركية.