كانت تلك الزائرة الضخمة، والتي تحتاج أكثر من رجل لحملها، تأتي إلى حارتنا كلّ صيف، تحمل معها فرحاً قمحي اللون، وتجعل رائحة الحياة في الحارة أطيب وصوتها أقوى.
كنّا نسميها "الخلقينة"، وهي إناء ضخم جدّاً يتّسع لسلق أكثر من خمسين كيلوغراماً من القمح دفعة واحدة. فكل عائلة يأتي دورها، تسلق ما يكفي لمؤونة البيت من البرغل عاماً كاملاً. إذ تعتمد معظم مناطق بلادنا على مشتقات القمح في طعامها الأساسي لأنّه من المزروعات الأكثر شعبية في أراضينا.
بعد انتهاء موسم الحصاد، الذي كانت الأيادي خلاله توزّع أصابعها على السنابل وتصادق الشمس المرّة وتسقيها القهوة مع الهيل، كان الناس يجمعون القمح المحصود عن البيادر وينقلونه إلى منازلهم. وحين تأتي هذه الزائرة الضخمة إلى إحدى الحارات، تتوزّع البيوت الأدوار ليأخذها بيت كلّ يوم.
اقرأ أيضاً: عندما صفعتُ نبيه بري بكفّي على خدّه
كنّا نتقاسمها، وفي هذا التقاسم جزء من "اللعبة" الجميلة. كنّا نشترك فيها، وكأنّنا نشترك في "الحياة". فالقمح هو الحياة لنا.
أذكر أنّنا حين يأتي دورنا في الحصول عليها، كنّا، نحن الأطفال، نستيقظ باكراً ونمهّد الصباح لنستقبل هذا اليوم كما لو أنّه يوم عيد.
تقوم أمي بعملية تسمّى "الصويل"، وهي عملية معقّدة وطويلة نسبياً لغسل القمح المحصود بالماء بهدف تخليصه من التراب والشوائب العالقة فيه. إذ توضع كميات متتالية من القمح في أوعية مليئة بالماء النظيف ويتم نقله، براحتي اليد وبهدوء، من إناء إلى آخر، حتّى ينقل، أخيراً، إلى "الخلقينة" التي يوقد تحتها الحطب.
بعدها يضاف إليها الماء، وتسلق على نار هادئة، بعناية وبالركون إلى خبرة كي لا تنضج أكثر مما يجب، وكي لا تحترق إذا علقت الحبوب في كعب "الخلقينة". تسلق إلى أنّ تنضج حبّات القمح. تلك التي تمتزج في "يوم السلق" الطويل مع ضحكاتنا وأحاديثنا.
إذ يجتمع الجيران حول "الخلقينة"، في أيّ بيتٍ كانت، كي يتعاونوا في حمل القمح المسلوق وفرشه على الأسطح، في عمل جماعيّ يطول أيّاماً، إلى أن يجفّ القمح. يجتمع الشباب بعدها إلى الصبايا ليبدأوا في جولات من الأغاني. ومن هناك، قرب القمح المسلوق، تبدأ قصص حب خجولة، تستوي مع الحبوب الذهبية، مؤذنة بأقفاص ذهبية ستولد وتستوي هناك، على الحطب نفسه.
كانت أمّي تشوي البطاطا والباذنجان على نار الحطب الموقدة تحت "الخلقينة" وتقدّم الطعام إلى الجيران. وبعدها تشوي لهم أيضاً "عرانيس" الذرة ليأكلوها في سهرة الصيف هذه، وهم ينتظرون استواء القمح.
اقرأ أيضاً: جسور الحبّ: رشوة القدر؟ أم شراء الأمل؟
كلّ صيف كنّا ننتظر يوم السلق. فهو، على الرغم من تعبه، يوم مليء بالحياة، وصوت حبّات القمح وهي تنزلق إلى الماء يحمل إلى الروح بهجة غريبة. أما رائحة القمح المسلوق، التي تملأ الحارة، فقد كانت تملأنا بالأمل وتجعل أرواحنا خضراء. وكان اجتماع كلّ أهل الحارة مع الشباب والأطفال يخلق طقساً خاصاً جميلاً وأليفاً ولا ينسى. كانت العائلة صاحبة الدور توزّع صحون قمحها المسلوق الساخن على الجيران مطبوخاً مع الودّ والشكر ليضيفوا إليه بعضاً من السكّر فيأكلونه ساخناً وشهياً.
في ختام هذا اليوم ينام الجميع متعبين، لكن حمل الحياة يكون خفيفاً عليهم. فمؤونة الأفواه التي تسكن البيوت قد أصبحت جاهزة، ولم يبقَ إلا أن يجفّ القمح المسلوق، المنشورعلى الأسطح والقلوب، والذي سيجمع ويذهب بعدها إلى المطحنة ليصير برغلاً يطبخ مع اللحم أو مع البندورة (الطماطم) والحمص أو إلى جانب اللبن المطبوخ، أو قد يتحوّل إلى كبّة توزّع الأم فيها حبّها الذي لا ينتهي على أبنائها وزوجها وجيرانها وضيوفها.
ينتهي يوم السلق والأرض التي أعطت القمح تنام مطمئنة وتنتظر يداً جديدة وأصابع جديدة تبذر فيها الحياة.
أما اليوم، فلم تترك الطائرات الإسرائيلية مكاناً في السماء كي تجدّد عشقها للأرض. ولم تترك الصواريخ الصهيونية الحاقدة مكاناً في الأرض كي تبرهن للسماء عن الحبّ نفسه. أما الأصابع التي كانت تسلق القمح فقد أصبح بعضها تحت التراب، وأخرى باتت تحت التعذيب في السجون والمعتقلات والأقبية المعتمة، أو أنّها نزحت مع ذاكرة القمح المسلوقة المليئة بضحكات من رحلوا، هجرةً أو موتاً أو عذاباً.
اقرأ أيضاً: الخبز: رائحة الأمان والذكريات