08 نوفمبر 2024
حلمُ الانتقال الديمقراطي في خمس سنوات
مع دخول الربيع العربي سنته الخامسة، تتجدّد الأسئلة بشأن العوامل وراء إجهاض حلم شعوب المنطقة بالقطع مع الاستبداد والقمع والفساد وسوء توزيع الثروة، وإقامة أنظمة ديمقراطية، تستجيب لتطلعاتها نحو الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. كيف تحول مسار الأحداث من ثورات سلميةٍ، تقودها شبيبة عربية متحمسة، إلى مختبرات مفتوحة للعنف والإرهاب والتقتيل؟ وكيف تم استدعاء النعرات المذهبية والطائفية، وتسخيرها لتدمير النسيج الوطني والأهلي والاجتماعي؟
بالرجوع إلى تجارب الانتقال الديمقراطي، يُلاحظ أن هناك عوامل حاسمة تسهم في دفع الفاعلين، دولةً ونخباً ومجتمعاً، لتبني خيار التحول نحو الديمقراطية، من دون تردد، أبرزها مدى استعداد الفاعلين للانخراط في إصلاح دستوري وسياسي شامل، مسنود بتوافق وطني واسع، وطبقة وسطى متعلمة ونشيطة ومتطلعة للمشاركة في الحياة السياسية، وثقافة سياسية تترك هامشاً معقولا للتفاوض وتدبير الاختلاف، ونخب اقتصادية تلعب دورها في بناء اقتصاد وطني، يرتكز على التنافسية بدل الريع والامتياز، ومحيط إقليمي ودولي مساعد بدرجة أو بأخرى.
في ضوء ما حدث في الأعوام الأربعة المنصرمة، في وسعنا القول إن هناك عاملين أسهما، بشكل كبير، في إخفاق العرب في إضافة موجة أخرى إلى موجات الدمقرطة التي تحدث عنها عالم السياسة الأميركي الراحل، صمويل هنتنغتون، قبل أكثر من عقدين في كتابه "الموجة الثالثة". الأول، الفشل المريع للنخب العربية (على اختلاف مواقعها في السلطة والمعارضة!) في إدارة الصراع بين مختلف مكوناتها وتشكيلاتها، بسبب افتقادها الثقافة السياسية التي تتطلبها مثل هذه المنعطفات التاريخية والمفصلية، والتي يجب أن تنبني على قبول الاختلاف والرأي المعارض والتنازل المتبادل وتوسيع دائرة المشاورات بين مختلف القوى الاجتماعية، توخياً للتوصل إلى أرضية مشتركة، تُجنب المجتمع انسداد الآفاق الذي لا يُعجل فقط بانهيار المسارات الانتقالية، والرجوع إلى نقطة الصفر، بل قد يدفع إلى سيناريوهات كارثية، يحيق فيها الخسرانُ بالجميع. ويمكن القول هنا، من دون مغالاة، إن الحالة التونسية باتت أقرب إلى أن تكون عيّنة على ما نحن بصدده، فحركة النهضة، وعلى الرغم من خلفيتها الإسلامية الواضحة وكاريزما زعيمها راشد الغنوشي وحضورها قوة انتخابية وسياسية واجتماعية بعد الثورة، إلا أنها أبانت حسّاً سياسياً لافتاً في التعاطي مع المسار الانتقالي، بكل التوترات والأزمات التي واجهها. وفي وقت كان فيه بعض خصومها يتهمونها بالتخوين، ويحمّلونها المسؤولية السياسية والأخلاقية عن أعمال العنف والإرهاب التي عرفتها البلاد، اختارت أن تتفاعل مع كل هذه الضغوط، بنضج ومسؤولية، فقدمت تنازلات مكلفة ومرّة، على الرغم من إدراكها أن نصف المجتمع التونسي، أو أكثر، يقف معها، وتركت موقع السلطة، مفضلةً المصلحة الوطنية على مصلحتها الحزبية الضيقة.
تَتَوْنست الحركةُ وأسهمت، من موقعها، في وضع البلاد على درب تأسيس أول ديمقراطية في العالم العربي. وأخفقت جماعة الإخوان المسلمين في مصر في هذا الشق، وبات التاريخُ يحملها جزءاً غير يسير من المسؤولية في انتكاسة الثورة، وعودة النظام القديم في حلة جديدة يسهر عليها تحالفُ العسكر والأمن ورجال الأعمال، فكان ضيقُ رؤيتها وسوءُ تقديرها متغيرات المحيط الإقليمي، وفشلُها الذريع في توسيع دائرة التوافق الوطني، عواملَ أسهمت، من دون شك، في زيادة منسوب الاحتقان السياسي بينها وبين القوى الثورية بمختلف أطيافها المدنية والليبرالية والعلمانية، الأمر الذي فتح الباب أمام العسكر للانقلاب على الشرعية وإجهاض أحلام ثورة 25 يناير.
يرتبط العامل الثاني بالمحيط الإقليمي والدولي. ولسنا بحاجة للتذكير بدور الكيان الصهيوني في إعاقة الديمقراطية والتنمية في المنطقة، بفسحه المجال أمام صعود النخب العسكرية العربية التي أجهزت على التمرينات الليبرالية التي عرفتها بعض الأقطار في النصف الأول من القرن الماضي، وأقامت أنظمة عسكرتارية شمولية، قائمة على الشرعية الثورية بدل الديمقراطية. وكان للمواجهات التي خاضتها مع هذا الكيان دور لا يستهان به في بناء سياق فكري وسياسي مناوئ للديمقراطية والحريات، لا سيما أنه "لا صوت كان يعلو فوق صوت المعركة".
في ظل ذلك، قامت المعادلة الإقليمية على دعم الغرب العسكري والاقتصادي غير المحدود لإسرائيل. وعلى دعم غربي آخر للأنظمة العربية، مشروطٍ بغض الطرف عن الانتهاكات الصارخة لهذه الأخيرة فيما يخص الحقوق والحريات، ومدى نجاحها في تأمين مصالح القوى الكبرى، والمتمثلة في السيطرة الكاملة على منابع النفط، والحفاظ على أمن إسرائيل. من هنا، يمكن إدراك أبعاد الرعب الدال الذي اجتاح دوائر صنع القرار في الغرب وإسرائيل في الأسابيع الأولى التي أعقبت إطاحة نظام حسني مبارك، ليس فقط بسبب ثقل مصر التاريخي والثقافي والجيوستراتيجي (المعطل!) في المنطقة. ولكن، بسبب الخوف من تدحرج "كرة الثلج" المصرية صوب جوارها الإقليمي، لا سيما منطقة الخليج، وما تمثله من أهمية بالنسبة لصراع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في العالم.
بالرجوع إلى تجارب الانتقال الديمقراطي، يُلاحظ أن هناك عوامل حاسمة تسهم في دفع الفاعلين، دولةً ونخباً ومجتمعاً، لتبني خيار التحول نحو الديمقراطية، من دون تردد، أبرزها مدى استعداد الفاعلين للانخراط في إصلاح دستوري وسياسي شامل، مسنود بتوافق وطني واسع، وطبقة وسطى متعلمة ونشيطة ومتطلعة للمشاركة في الحياة السياسية، وثقافة سياسية تترك هامشاً معقولا للتفاوض وتدبير الاختلاف، ونخب اقتصادية تلعب دورها في بناء اقتصاد وطني، يرتكز على التنافسية بدل الريع والامتياز، ومحيط إقليمي ودولي مساعد بدرجة أو بأخرى.
في ضوء ما حدث في الأعوام الأربعة المنصرمة، في وسعنا القول إن هناك عاملين أسهما، بشكل كبير، في إخفاق العرب في إضافة موجة أخرى إلى موجات الدمقرطة التي تحدث عنها عالم السياسة الأميركي الراحل، صمويل هنتنغتون، قبل أكثر من عقدين في كتابه "الموجة الثالثة". الأول، الفشل المريع للنخب العربية (على اختلاف مواقعها في السلطة والمعارضة!) في إدارة الصراع بين مختلف مكوناتها وتشكيلاتها، بسبب افتقادها الثقافة السياسية التي تتطلبها مثل هذه المنعطفات التاريخية والمفصلية، والتي يجب أن تنبني على قبول الاختلاف والرأي المعارض والتنازل المتبادل وتوسيع دائرة المشاورات بين مختلف القوى الاجتماعية، توخياً للتوصل إلى أرضية مشتركة، تُجنب المجتمع انسداد الآفاق الذي لا يُعجل فقط بانهيار المسارات الانتقالية، والرجوع إلى نقطة الصفر، بل قد يدفع إلى سيناريوهات كارثية، يحيق فيها الخسرانُ بالجميع. ويمكن القول هنا، من دون مغالاة، إن الحالة التونسية باتت أقرب إلى أن تكون عيّنة على ما نحن بصدده، فحركة النهضة، وعلى الرغم من خلفيتها الإسلامية الواضحة وكاريزما زعيمها راشد الغنوشي وحضورها قوة انتخابية وسياسية واجتماعية بعد الثورة، إلا أنها أبانت حسّاً سياسياً لافتاً في التعاطي مع المسار الانتقالي، بكل التوترات والأزمات التي واجهها. وفي وقت كان فيه بعض خصومها يتهمونها بالتخوين، ويحمّلونها المسؤولية السياسية والأخلاقية عن أعمال العنف والإرهاب التي عرفتها البلاد، اختارت أن تتفاعل مع كل هذه الضغوط، بنضج ومسؤولية، فقدمت تنازلات مكلفة ومرّة، على الرغم من إدراكها أن نصف المجتمع التونسي، أو أكثر، يقف معها، وتركت موقع السلطة، مفضلةً المصلحة الوطنية على مصلحتها الحزبية الضيقة.
تَتَوْنست الحركةُ وأسهمت، من موقعها، في وضع البلاد على درب تأسيس أول ديمقراطية في العالم العربي. وأخفقت جماعة الإخوان المسلمين في مصر في هذا الشق، وبات التاريخُ يحملها جزءاً غير يسير من المسؤولية في انتكاسة الثورة، وعودة النظام القديم في حلة جديدة يسهر عليها تحالفُ العسكر والأمن ورجال الأعمال، فكان ضيقُ رؤيتها وسوءُ تقديرها متغيرات المحيط الإقليمي، وفشلُها الذريع في توسيع دائرة التوافق الوطني، عواملَ أسهمت، من دون شك، في زيادة منسوب الاحتقان السياسي بينها وبين القوى الثورية بمختلف أطيافها المدنية والليبرالية والعلمانية، الأمر الذي فتح الباب أمام العسكر للانقلاب على الشرعية وإجهاض أحلام ثورة 25 يناير.
يرتبط العامل الثاني بالمحيط الإقليمي والدولي. ولسنا بحاجة للتذكير بدور الكيان الصهيوني في إعاقة الديمقراطية والتنمية في المنطقة، بفسحه المجال أمام صعود النخب العسكرية العربية التي أجهزت على التمرينات الليبرالية التي عرفتها بعض الأقطار في النصف الأول من القرن الماضي، وأقامت أنظمة عسكرتارية شمولية، قائمة على الشرعية الثورية بدل الديمقراطية. وكان للمواجهات التي خاضتها مع هذا الكيان دور لا يستهان به في بناء سياق فكري وسياسي مناوئ للديمقراطية والحريات، لا سيما أنه "لا صوت كان يعلو فوق صوت المعركة".
في ظل ذلك، قامت المعادلة الإقليمية على دعم الغرب العسكري والاقتصادي غير المحدود لإسرائيل. وعلى دعم غربي آخر للأنظمة العربية، مشروطٍ بغض الطرف عن الانتهاكات الصارخة لهذه الأخيرة فيما يخص الحقوق والحريات، ومدى نجاحها في تأمين مصالح القوى الكبرى، والمتمثلة في السيطرة الكاملة على منابع النفط، والحفاظ على أمن إسرائيل. من هنا، يمكن إدراك أبعاد الرعب الدال الذي اجتاح دوائر صنع القرار في الغرب وإسرائيل في الأسابيع الأولى التي أعقبت إطاحة نظام حسني مبارك، ليس فقط بسبب ثقل مصر التاريخي والثقافي والجيوستراتيجي (المعطل!) في المنطقة. ولكن، بسبب الخوف من تدحرج "كرة الثلج" المصرية صوب جوارها الإقليمي، لا سيما منطقة الخليج، وما تمثله من أهمية بالنسبة لصراع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في العالم.