قد تفتح الجوائز الأدبية أحياناً نافذة لتسمح بعبور قسطٍ من النور يُضيء وجه كاتبٍ اعتاد العزلة وانصرف عن شؤون لا تعنيه في مختبرات الشهرة. الحال ينطبق على خوان إدواردو ثونّيغا (مدريد، 1929)، الذي مُنح أول أمس "الجائزة الوطينة للآداب الإسبانية"، وهي جائزة سنوية بارزة تمنحها "وزارة التربية والثقافة" لكاتب إسباني، يكتب بإحدى اللغات الرسمية في البلاد، عن مجمل أعماله تقديراً لقيمتها الأدبية عبر مسيرة سنوات من الإبداع.
يعتبر ثونّيغا (Juan Eduardo Zúñiga)، من أهم الروائيين والقاصّين الإسبان وإن كان من أكثرهم ملازمة للظلّ. يرى البعض أنه كاتب منسيٌّ، فلا حضور إعلاميّاً له تقريباً، إلا أنه يحظى بتقدير كبير، سواء بين النقاد أم بين قرائه. قُرّاؤه مخلصون، من يقرأه مرّة لا ينساه: يبحث بشغفٍ عن مزيد من مؤلفاته.
أُعطيت الجائزة لـ ثونّيغا، حسب ما جاء في بيان لجنة التحكيم، تقديراً "لحياته التي كرّسها للأدب، والتي كان فيها معلّماً سواء في جنس القصّة، الواقعية والعجائبية، أو في البحث الأدبي والترجمة".
عُرف ثونّيغا قاصاً متميّزاً في اللغة الإسبانية، إذ اتّسمت أجواء قصصه بالواقعية المشوبة بخيال رقيق يكاد، بدوره، ينقلب واقعاً، وبغرائبية طفيفة، مدروسةٍ بعناية لكي تبتكر واقعاً يُراد أن يُعاش. يعتمد أسلوبه على البناء البسيط -ولكن المحكم في نفس الوقت- والمقتضب لجملةٍ غنيّة بحساسيتها، تنساب منها طاقة تعبيرية تبدو، في أحيانٍ، خارجةً من قصيدة ما.
في الرواية اشتهرت ثلاثيته عن الحرب الأهلية في مدريد، بخاصّة جزؤها الأوّل ("نوفمبر مدريد الطويل"، 1980، "ستغدو الأرض جنّة"، 1989، "عاصمة المجد"، 2003).
عاش ثونّيغا طفولة قاسية في العاصمة المحترقة بلهب الحرب الأهلية، ولم تتوقّف ذاكرته الحيّة والمعاندة يوماً عن استعادة تلك الصور الباردة عن حصار المدينة الذي عاشه.
يقول صاحب "آخر يومٍ في العالم" إن الكتابة هي التي أنقذته من بردها ومن كوابيسها وعواصفها، فمدريد هي بشكل ما تلك الجذور التي تمتدّ به عميقاً في الأرض، هي مجسّ مكابدته كإنسان، ومَشغله الإبداعي. عن هذه الثلاثية يقول الكاتب: "إنها جولة عبر مدريد، تربطني بشكل متفاعل مع شخصياتٍ ليست مثالية تماماً، لم تصطفّ مع أيّ من الطرفين المتنازعين في الحرب، وعاشت في عزلة، مع شعورٍ بتأنيب في الضمير بسبب عدم التزامها ذاك"، في تلك الشخصيات لم يكن للبطولة أيّ أثر، "فالبطوليُّ كان يوجد في ذلك البُعد النسبيّ عن مدينةٍ محاصرة وجائعة ومقصوفة".
من هذا الخراب نجا الكاتب ليدوِّن عنه طويلاً، كان في المساءات يستحثّ ذاكرته المثقلة بالمشاهد القاتمة والخوف والجوع، فكأنه بعد انقضاء سنوات طِوال كان يبحث عن أجوبةٍ معلّقة تستحقّ أن يقف عندها كلّ إسبانيّ اليوم، ففي الركن القصيّ من الذاكرة لا تزال تلمع نيران بعيدة مثل ندبة لا تزول.
لا بدّ من الإشارة إلى أن ثونّيغا أحدُ أهمّ المتخصّصين في اللغات والآداب السلافية. صدرت له أول ترجمة عن البلغارية في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي "الحصّاد"، لـ تودور نِيكوف، وترجم بعدها عن الروسية مؤلفات عدّة مثل "آباء وأبناء" لـ إيفان تورغينيف، كما قدم دراسات نقدّية هامّة عن الأدب الروسي تناول فيها أعمال كتاب من أمثال بوشكين وتشيخوف وتورغينيف. ترجم عن البرتغالية أيضاً، وحاز عام 1987 على "الجائزة الوطنية للترجمة" عن ترجمتة لمجموعة مختارة من قصائد ونصوص نثرية للبرتغالي "أنتيرو دي كينتال".
من رواياته: "المرجان والمياه"، 1962 و"أزهارٌ من رصاص"، 1999، ومن مجموعاته القصصية: "ألغاز الليالي والنهارات"، 1992 و"تلمعُ قطعُ نقودٍ صدئة"، 2010.