15 نوفمبر 2024
دوائر الكذب
قد نستغرب أحيانا، ونندهش، وربما نبدي إعجابنا، بقدرة طفلٍ صغيرٍ على النجاة من العقاب على فعلٍ قام به، بسبب اختلاقه قصةً ما يبرّر بها فعله، غالبية الأطفال يفعلون هذا، وفي سنٍّ مبكرة جدا، ونحن، الكبار، نضحك ونفرح ونبدي الإعجاب بالقصة المختلقة، من دون أن ننتبه إلى أن الطفل، ببساطة، قد تعلم الكذب باكرا، وأننا، عبر إعجابنا بإنقاذه نفسه، نشجعه على الاستمرار بالخطأ، وباختلاق الذرائع لتبرير خطئه والإفلات من العقاب. ومع مرور الزمن، يتحوّل الكذب إلى عادةٍ في سلوك الشخص، ويتطوّر لدى بعضهم ليترافق مع النصب والاحتيال، وقد يتحوّل إلى مجرمٍ بنظر المجتمع والقانون، وقد يظلّ الأمر في إطار الخيال الغني، والكذب الأبيض غير المؤذي، وهو حال معظم الشعوب العربية التي تتحدّث عن الصدق، بوصفه قيمة كبرى، لكن سلوكها اليومي يجعل من الصدق قيمةً مفرغةً من معناها وحقيقتها.
ولكن، هل سألنا أنفسنا يوما كيف ينشأ الطفل، وهو يدرك أهمية الكذب في تجنّب العقاب في سنٍّ مبكرة؟! لنراجع قليلا بعضا مما نقوله لأطفالنا في صغرهم، لنعرف الجرائم التي نرتكبها بحق مجتمعاتنا، عبر تكريس فعل الكذب في اللاوعي الفردي والجمعي في بلادنا. تبدأ القصة منذ التهويدة الأولى القديمة التي انتقلت جيلا وراء جيل، حتى أن فيروز العظيمة قد غنّتها: "يلا تنام تادبحلك طير الحمام..". سيعرف الطفل لاحقا أنه ما من طائر حمام موجود أصلا، ولن تذبح أمه أي شيء، وأن الحكاية كلها اختلاقٌ من الأم كي ترغّبه في النوم، مثلما سيعرف أنه إن لم يذهب إلى النوم لن يأتي "العو" ليأكله، وإذا لم يذهب إلى مدرسةٍ لن يأتي "عمو الشرطي" ليأخذه إلى السجن، ولن يأتيه مصّاصو الدماء في الليل إذا ما أكل قطعة شوكولا، ولن تنبت في أحشائه شجرة كرز إذا ما ابتلع حبة الكرز كما هي، ولن يعاقبه الله لأنه يريد أن يكتشف أعضاءه الجنسية، ولن تنبت له قرون طويلة إذا ما أكثر من الأسئلة، ولن يخطفه الغريب إذا ما بكى في الشارع، ولن تستبدل أسنانه بالسكاكين لأنه يقضم أظافره، ولن يحدث له شيء خارج عن المألوف إذا ما تصرّف أي تصرّفٍ لا يعجب والديه وعائلته ومجتمعه وبيئته..
سيكتشف الطفل شيئا فشيئا أن كل ما سبق كان كذبا، لمنعه من السلوك الذي قد يسبب الإحراج أو التعب أو الملل لوالديه وعائلته، فيتعلم أن يسلك السلوك نفسه مع المحيطين به، يتهرّب عبر الكذب من أي مسؤوليةٍ تلقى على عاتقه، أو من أي عقابٍ قد يطاوله بسبب سلوك خاطئ أو سيئ أو مؤذٍ. وهكذا ينتقل السلوك من فرد إلى آخر، ومن دائرة إلى أخرى، حتى يصبح الكذب دوائر متداخلة، من يحاول الفكاك منها يوصَم بالغباء أو المسكنة أو العجز عن تدبير شؤون الحال، ويصبح الصدق شعارا أجوف وقناعا اجتماعيا يخفي وراءه ما لا يخطر في البال من طرائق اللف والدوران والغش والفساد والاحتيال والنصب والانتهازية والرياء والنفاق.
وفي مجتمعاتنا أيضا، تتم حماية الكذب، وما ينتج منه من جرائم اجتماعية وسياسية، بالقانون، فقوانين بلادنا مفصّلة على قياس الأنظمة وحواشيها، الأنظمة التي تشتغل بدأبٍ على تكريس الكذب، وتحمي من يسلكه، فكلما فرغت القيم الكبرى من محتواها لصالح ما هو عكسها، استطاعت هذه الأنظمة التحكّم وفرض سيطرتها على نطاقٍ أوسع وأعمق، مستخدمةً لذلك كل المؤسسات المرتبطة بها، بما فيها المؤسّسة الدينية التي تشجع على ممارسة المعنى العميق لفكرة "وإذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا"، فالمهم هو الحفاظ على قناع الفضيلة والصدق، القناع الذي يوحي بأن هذه المجتمعات فاضلة، بينما يحدث في الخفاء ما لا يخطر في البال.
تعرف الأنظمة أن شعوبها تمارس كل أنواع الشرور الاجتماعية في الخفاء، وتشجّعها على ذلك، لتبقيها في حالة لاوعي اجتماعي وسياسي غير قادرٍ على التغيير الجذري، ومتقبلٍ خطابها الذي تستخدمه في الميديا المتواطئة معها، بحيث تصبح البروباغاندا الإعلامية للأنظمة وحواشيها كلها حقيقة كاملة لدى شعوبها، وكل من يعترضها ويفنّد أكاذيبها أو يناقشها، هو متآمر وخائن. يحدث هذا ليس فقط مع خطاب الأنظمة، بل مع خطاب أية سلطة، مهما كانت، عائلية أو قبلية أو عشائرية أو مذهبية أو دينية أو اجتماعية مؤسّساتية كالمؤسسات التعليمية والوظيفية وغيرها، هكذا تتداخل الدوائر بعضها ببعض، وتُحاط بدائرة أكبر محمولة على دعائم الكذب الذي نطبطب على ظهور أطفالنا إعجابا بهم كلما أتقنوه.
ولكن، هل سألنا أنفسنا يوما كيف ينشأ الطفل، وهو يدرك أهمية الكذب في تجنّب العقاب في سنٍّ مبكرة؟! لنراجع قليلا بعضا مما نقوله لأطفالنا في صغرهم، لنعرف الجرائم التي نرتكبها بحق مجتمعاتنا، عبر تكريس فعل الكذب في اللاوعي الفردي والجمعي في بلادنا. تبدأ القصة منذ التهويدة الأولى القديمة التي انتقلت جيلا وراء جيل، حتى أن فيروز العظيمة قد غنّتها: "يلا تنام تادبحلك طير الحمام..". سيعرف الطفل لاحقا أنه ما من طائر حمام موجود أصلا، ولن تذبح أمه أي شيء، وأن الحكاية كلها اختلاقٌ من الأم كي ترغّبه في النوم، مثلما سيعرف أنه إن لم يذهب إلى النوم لن يأتي "العو" ليأكله، وإذا لم يذهب إلى مدرسةٍ لن يأتي "عمو الشرطي" ليأخذه إلى السجن، ولن يأتيه مصّاصو الدماء في الليل إذا ما أكل قطعة شوكولا، ولن تنبت في أحشائه شجرة كرز إذا ما ابتلع حبة الكرز كما هي، ولن يعاقبه الله لأنه يريد أن يكتشف أعضاءه الجنسية، ولن تنبت له قرون طويلة إذا ما أكثر من الأسئلة، ولن يخطفه الغريب إذا ما بكى في الشارع، ولن تستبدل أسنانه بالسكاكين لأنه يقضم أظافره، ولن يحدث له شيء خارج عن المألوف إذا ما تصرّف أي تصرّفٍ لا يعجب والديه وعائلته ومجتمعه وبيئته..
سيكتشف الطفل شيئا فشيئا أن كل ما سبق كان كذبا، لمنعه من السلوك الذي قد يسبب الإحراج أو التعب أو الملل لوالديه وعائلته، فيتعلم أن يسلك السلوك نفسه مع المحيطين به، يتهرّب عبر الكذب من أي مسؤوليةٍ تلقى على عاتقه، أو من أي عقابٍ قد يطاوله بسبب سلوك خاطئ أو سيئ أو مؤذٍ. وهكذا ينتقل السلوك من فرد إلى آخر، ومن دائرة إلى أخرى، حتى يصبح الكذب دوائر متداخلة، من يحاول الفكاك منها يوصَم بالغباء أو المسكنة أو العجز عن تدبير شؤون الحال، ويصبح الصدق شعارا أجوف وقناعا اجتماعيا يخفي وراءه ما لا يخطر في البال من طرائق اللف والدوران والغش والفساد والاحتيال والنصب والانتهازية والرياء والنفاق.
وفي مجتمعاتنا أيضا، تتم حماية الكذب، وما ينتج منه من جرائم اجتماعية وسياسية، بالقانون، فقوانين بلادنا مفصّلة على قياس الأنظمة وحواشيها، الأنظمة التي تشتغل بدأبٍ على تكريس الكذب، وتحمي من يسلكه، فكلما فرغت القيم الكبرى من محتواها لصالح ما هو عكسها، استطاعت هذه الأنظمة التحكّم وفرض سيطرتها على نطاقٍ أوسع وأعمق، مستخدمةً لذلك كل المؤسسات المرتبطة بها، بما فيها المؤسّسة الدينية التي تشجع على ممارسة المعنى العميق لفكرة "وإذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا"، فالمهم هو الحفاظ على قناع الفضيلة والصدق، القناع الذي يوحي بأن هذه المجتمعات فاضلة، بينما يحدث في الخفاء ما لا يخطر في البال.
تعرف الأنظمة أن شعوبها تمارس كل أنواع الشرور الاجتماعية في الخفاء، وتشجّعها على ذلك، لتبقيها في حالة لاوعي اجتماعي وسياسي غير قادرٍ على التغيير الجذري، ومتقبلٍ خطابها الذي تستخدمه في الميديا المتواطئة معها، بحيث تصبح البروباغاندا الإعلامية للأنظمة وحواشيها كلها حقيقة كاملة لدى شعوبها، وكل من يعترضها ويفنّد أكاذيبها أو يناقشها، هو متآمر وخائن. يحدث هذا ليس فقط مع خطاب الأنظمة، بل مع خطاب أية سلطة، مهما كانت، عائلية أو قبلية أو عشائرية أو مذهبية أو دينية أو اجتماعية مؤسّساتية كالمؤسسات التعليمية والوظيفية وغيرها، هكذا تتداخل الدوائر بعضها ببعض، وتُحاط بدائرة أكبر محمولة على دعائم الكذب الذي نطبطب على ظهور أطفالنا إعجابا بهم كلما أتقنوه.