صاغت مصر الوجدان العربي وذائقته، طوال عقود مضت، عبر الغناء والسينما بشكل أساسي. ومن دونهما، لم تكن لتلك المركزية المصرية أن تتكرّس وتنتشر كهوى أو عقيدة في البلدان العربية من خلال الأدبيات السياسية للأنظمة الحاكمة في القاهرة، وإن تعلّق كثيرون بالحقبة الناصرية.
انتمى محمد خان (1942 - 2016) إلى مفهوم "المصرية" هذا بوصفه حالة ثقافية وسياسية وعاطفية يمكن أن ينتسب إليها 300 مليون عربي، وربما غيرهم. وقد تبدو مفارقة أن خان نفسه، ذا الأصول الباكستانية، لم ينل الجنسية المصرية إلاً عام 2014، رغم أنه أنتج عشرات الأفلام المصرية خلال أربعين عاماً وأكثر.
التصق صاحب "الرغبة" (1980) مع غالبية أبناء جيله (عاطف الطيّب وداود عبد السيد وخيري بشارة وآخرون) بأحلام ثورة يوليو 1952، واشتركوا جميعهم بتوق إلى التحرّر بمستوياته المركّبة؛ التحرّر من كليشهات السينما السائدة بأفكارها البدائية حول الصراع الاجتماعي أو تفاصيل البشر الصغيرة في الحب والعيش، والتحرّر من تراتبية مجتمعية تصنّف المواطنين بحسب أصولهم وطبقاتهم وثرواتهم، وبالطبع كان التحرّر يتشكّل أحلاماً أكبر تتصل بمعنى الوجود كلّه.
بدت نكسة حزيران 1967 محطّة مفصلية في الثقافة المصرية، والعربية، ولن يبدو غريباً أن ينحاز خان إلى ما يمكن تسميته "نقاء" الثورة، معترضاً على سياسات من خطفوها ممثّلين بحكْم السادات، واستنكاره اشتداد قبضتهم الأمنية في تحالفهم/ تقاسمهم النفوذ مع طبقة رجال الأعمال الجدد المستفيدين من الانفتاح الاقتصادي أواخر السبعينيات، وهو ما عكسه في جملة أفلام انتقد فيها عصراً بأكمله.
"ضروري أطلّعه ضابط.. الضبّاط همّا اللي بيحكموا العالم، إمبارح والنهاردة وبكرة"، مقولة لن تُمحى في ذاكرة السينما العربية، جاءت على لسان أحمد زكي، ضابط المخابرات في فيلمه "زوجة رجل مهم" (1987)، وهو يخاطب زوجته الحامل في انتظار مولودهما، والتي كانت طالبة جامعية مأسورة بقيم الحب والعدالة والحرية، وجدت نفسها أمام زوج لا مكان في قلبه وعقله إلا للسلطة.
هنا، يظهر بُعد آخر طفولي للنقاء الذي انساق إليه خان، المحكوم إلى عوامل موضوعية تتمثّل في انكشاف عورات النظام بعد موت عبد الناصر عام 1970، وبأخرى ذاتية ذات صلة بتعلّقات جيل كامل بصورة "الأب". وبذلك نكون أمام وثيقة بصرية يؤمن صاحبها بأن صراعاً بين "انتهازيين" استولوا على السلطة وبين "مثاليين" انتهوا إلى خارجها، وهي خلاصة تصوّره عن تلك الفترة، متجنّباً أية انتقادات لعهد عبد الناصر، أو حتى للمثاليين فيه، سواء كانوا مسؤولين أو مواطنين عاديين.
بحسب هذه الرؤية، وعودة إلى الغناء توأم السينما في تأسيس وجدان الجماهير العربية، فإن صاحب "الثأر" اختار عبد الحليم حافظ صوتاً للزمن الذي يحنّ للعودة إليه في كثير من أعماله، ولم تغب أغاني العندليب الأسمر من معظمها، وكأنها تؤشّر على مواجهة خاسرة بين زمنين ورجالاتهما.
مواجهة لم تثن خان عن إخراجه فيلم "أيام السادات" (2001) لقناعته بأهمية موضوعه ومرحلته، قناعة شاركها فيها بطله أحمد زكي أيضاً، لكن ذلك لم يمنع من أن يختلفا إلى حد كاد أن يلغي فكرة الفيلم برمّته لأن الأول نظر إليه بواقعيته المعهودة تجاه شخصية لم يكنّ لها الودّ يوماً لكنه يقرّ بثرائها درامياً، بينما كان الثاني يحلم بتخليقها سينمائياً، لاعتقاده أنه أحد أهم زعيمين حكما مصر، وهو الذي قام بدور عبد الناصر في فيلم "ناصر 56". لذلك لم يكن مستغرباً اعتراف خان بأنه أتمّ العمل رغبة منه في تحقيق حلم أحد أعزّ أصدقائه.
على أن هذه العلاقة المعقّدة بين خان وزكي، لا يمكن تجاوزها عند التعليق على مسيرة صاحب "خرج ولم يعد" (1984)، إذ رأى كل منهما في الآخر ذروة إبداعه؛ لحظة اكتمال تصاغ على غفلة من الوقت، ويعجز كلاهما في تكرارها، فتتجسّد على نحو مختلف كل مرة. غير أن هذه الحالة لم تصنّع خارج جنونهما واختلافاتهما التي لا تنتهي، حيث يلتقيان ثم يختصمان على فيض عابر من شتائم متبادلة، ويعودان على تقدير ثابت لموهبة كل منهما.
الجدلية التي حكمت تعاونهما ذات صلة بجوهر تكوينهما: مخرج لا ينام في كوادر تصويره أياماً طويلة، ولا تفلت من بين يده أدق تفصيلات الممثل أو التقنيات الفنية، مؤمن بأنه الصانع الوحيد الذي يمسك كل خيوط اللعبة، في مقابل ممثّل أجاد الوقوف أمام كاميرات صنّاع مستبّدين (منهم صلاح أبو سيف، وعاطف الطيب، وعلي بدرخان)، وأراد أن ينتزع مكانته في أعمال عديدة سينسبها مشاهدون كثر إليه، متناسين توقيع مخرجيها.
اتّجه خان، الذي لمع اسمه في الثمانينيات من خلال أفلام انتقد فيها التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى في بلده، إلى التركيز على انشغالات صغيرة جداً في حيوات أفراد لا تُسلَّط عليهم الأضواء، منذ العقد الأول من الألفية الجديدة، حيث قدّم "بنات وسط البلد" (2005)، و"في شقة مصر الجديدة" (2007)، و"فتاة المصنع" (2014)، و"قبل زحمة الصيف" (2015).
لم تعجب الأفلام الأخيرة جزءاً كبيراً من متابعيه، الذين لم ينتبهوا إلى أن خان خبّأ حلمه إلى زمن قادم نتيجة انهيارات كبرى لم يعد بمقدوره احتمالها إلاً بالبحث عن سر خيبة البسطاء في الحب.
_________
ثأر سينمائي
واقعية محمد خان قادته إلى الثأر من شخوص وأفكار ومراحل بتصفيتها "عن سابق إصرار وترصّد"، فقد اختار لبطلة فيلمه "موعد على العشاء" أن تقتل زوجها الظالم بالسمّ، لكنها بدلاً من أن تهرب مع عشيقها تناولت الطعام معه. ربما تكون النهاية الأقسى هي تلك التي في فيلمه "زوجة رجل مهمّ" حين قرّر ضابط المخابرات، رمز السلطة، بعد طول عزلة وفصام عن الواقع، إنهاء وجوده بإطلاق النار على نفسه.