31 أكتوبر 2024
رسائل بنكيران.. وأحلامه
أثارت تصريحات زعيم حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة المغربية السابق، عبد الإله بنكيران، أخيرًا، جملة أسئلةٍ بشأن توقيتها ودلالاتها، خصوصاً أنها جاءت بعد أيام قليلة من خطاب الملك محمد السادس الذي صب فيه غضبه على الجميع.
طالب بنكيران بإجراء تحقيق موازٍ حول ملابسات عسر تشكيل الحكومة (البلوكاج) الذي أعقب انتخابات 7 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، وانتهى باستبدال بنكيران بسعد الدين العثماني رئيساً للحكومة. يُدرك رئيس الحكومة السابق أن مطلبا كهذا يبدو شبه مستحيل، في ظل التركيبة السياسية المغربية وميزان القوى الحالي، لكنه أراد أن يربط، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، بين هذا ''البلوكاج'' وحراك الريف الذي تسببت فيه حادثة مقتل بائع السمك، محسن فكري، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كأنه يريد أن يقول إنه لو تُرك ليُشكل الحكومة مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، لكان وارداً للغاية تطويق الأزمة في بدايتها ومعالجتها، قبل أن تتحول إلى مشكلة وطنية كبرى، تقض مضجع السلطة والنخب والرأي العام.
لم تزد حالة الفراغ الحكومي، التي عاشها المغرب شهورا، منسوب التوتر والاحتقان في الريف فحسب، بل أجهزت على مسار التحول الديمقراطي الذي يُفترض أن دستور 2011 جاء لإرساء مرتكزاته. ولذلك، فإن الجهات التي تسببت في تعطيل أجهزة الدولة وإداراتها عن القيام بمهامها طوال مدة ''البلوكاج'' مطالبةٌ اليوم بتحمّل مسؤولياتها كاملةً حيال أزمة الحسيمة، وهي جهاتٌ لا يقع حزب العدالة والتنمية ضمنها. هذا ما يريد قوله بنكيران، من دون أن يصرح به. من هنا دلالةُ دعوته الملكَ إلى التدخل شخصيا لحل هذه الأزمة، انطلاقا من صلاحياته
الدستورية والسياسية الواسعة رئيسا للدولة.
على الرغم من ذلك، يبدو زعيم "العدالة والتنمية" حريصا على عدم قطع شعرة معاوية مع السلطة، بتأكيده على مركزية الملكية في البناء السياسي والمؤسساتي المغربي، إذ اعتبر أنه ''إذا تعارضت هذه الملكية مع الحزب، فإن الحزب لن يتردّد في حل أجهزته''، مما يعني تذكيراً دالا باستراتيجية الحزب القائمة على العمل من داخل النظام، وبتوافق وانسجام كاملين مع القصر. لذلك، لم يتوان عن الدعوة إلى تعديل دستوري يمهد لتعاقد جديد بين الملكية والإسلاميين، ويتجاوز الاختلالات التي عرفتها الولاية الحكومية السابقة، ويعيد الثقة إلى المواطنين في العملين، الحزبي والسياسي.
وإذا كان بنكيران يشير، هنا، إلى تعديل دستوري ينعطف بالملكية عن مسارها التنفيذي الحالي في اتجاه مسارٍ برلمانيٍّ مفترضٍ، أو أقل تنفيذيةً على الأقل، فذلك يبدو ضرباً من الخيال، وعجزا عن قراءة التحولات الجارية في ميزان القوى، والذي تتجه السلطة، من خلاله، إلى إحكام قبضتها على الحقل السياسي والاجتماعي، بعيدا عن مقتضيات الوثيقة الدستورية التي قد تتحول إلى وثيقة للاستئناس ليس إلا.
ثم هناك أمر آخر، ما جدوى إصلاح دستوريٍّ في ظل عجز النخب عن الاضطلاع بمهامها وصلاحياتها التي يخوّلها لها الدستور؟ هل يريد بنكيران أن يقنعنا بأن تبني دستور آخر، أكثر وضوحا وصرامة في توزيع الصلاحيات بين القصر ورئيس الحكومة، سيجعل هذه النخب أكثر فاعليةً وقدرة على ملء حالة الفراغ السياسي المهول، التي دفعت الملك إلى صب غضبه على مختلف مكوناتها؟ المشكلةُ في ثقافةٍ سياسية تقليدية متجذّرة تتقاسمها السلطةُ والنخب، تشكل عائقا بنيويا يحول دون التأويل الديمقراطي للدستور.
ولعل أبرز ما أراد بنكيران إيصاله إلى الفاعلين الآخرين، من هاته التصريحات، أن إعفاء الملك محمد السادس له واستبداله بالعثماني لا يعني نهاية مساره السياسي، لا سيما في ظل عزمه الترشح لولاية ثالثة خلال المؤتمر المقبل لحزب العدالة والتنمية الذي يُرتقب أن يُعقد نهاية السنة الجارية، على الرغم من أن لوائح الحزب لا تسمح بذلك، الأمر الذي يمكن أن يُفسر تحديا واضحا للقصر، خصوصا بعد الخطاب الأخير للملك.
يعيد تأكيدُ بنكيران على عدم نفاذ ''صلاحيته السياسية'' إلى الواجهة ما حدث لزعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عبد الرحمن اليوسفي، الذي كان يُفترض أن يقود حكومة (2002 - 2007) بعد تصدر الاتحاد الاشتراكي نتائج انتخابات 2002، لكن القصر
استعاض عنه، في آخر لحظة، بالتكنوقراطي إدريس جطو، ما عجّل باعتزاله العمل الحزبي والسياسي سنة بعد ذلك. أدرك اليوسفي، بخبرته السياسية الطويلة، أنه لم يعد مرغوباً به في الاستمرار على رأس الحكومة، وأن تعيين جطو وزيرا أولَ لم يكن غير إعلانٍ عن نهاية دور حزبه، في تحوّلٍ قُدّر له، منذ البداية، ألا يكون ديمقراطياً.
وعليه، لا يبدو بنكيران منتبها إلى هذه الخاصية البنيوية التي تطبع النسق السياسي المغربي، فحزمةُ الأعراف والتقاليد والرمزيات السلطانية والمخزنية المتجذّرة في البنية الاجتماعية والثقافية، لا يمكن أن تسمح بإعادة الإنتاج السياسي بالوجوه والخطابات نفسها. وحتى إذا افترضنا أن في كلامه استقواءً بالشرعية الانتخابية التي مكّنت حزبه من تصدّر الاقتراع التشريعي، فهذه الشرعية تبدو معرّضة للتآكل، أكثر من أي وقت مضى، في ضوء ما يعرفه الحزب من تصدّع بعد تعيين العثماني، زيادةً على أن مسؤولية بنكيران قائمةٌ في تفريطه بصلاحياته الدستورية، حينما كان رئيساً للحكومة، وحرصه على عدم الاصطدام مع القصر، ومهادنته قوى الفساد والريع التي تعايش معها. ومن ثَمَّ، فإن حديثه اليوم عن إمكانية انتقاد سياسات الملك يعيد إلى الواجهة ازدواجية الخطاب لدى النخب المغربية بمختلف مكوناتها، وعجزها عن ترسيخ قيم الحداثة في الممارسة السياسية، بصرف النظر عمّا إذا كانت في السلطة أو المعارضة.
يتعلق الأمر، إذن، بأحلام يقظة سياسية خامرت رئيس الحكومة السابق، تعكس عدمَ فهم واضح للتركيبة الثقافية والسياسية والرمزية للسلطوية المغربية، وأيضًا سوء تقدير للتحولات التي يبدو أن الحقل السياسي مقبل عليها بعد الخطاب الملكي.
طالب بنكيران بإجراء تحقيق موازٍ حول ملابسات عسر تشكيل الحكومة (البلوكاج) الذي أعقب انتخابات 7 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، وانتهى باستبدال بنكيران بسعد الدين العثماني رئيساً للحكومة. يُدرك رئيس الحكومة السابق أن مطلبا كهذا يبدو شبه مستحيل، في ظل التركيبة السياسية المغربية وميزان القوى الحالي، لكنه أراد أن يربط، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، بين هذا ''البلوكاج'' وحراك الريف الذي تسببت فيه حادثة مقتل بائع السمك، محسن فكري، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كأنه يريد أن يقول إنه لو تُرك ليُشكل الحكومة مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، لكان وارداً للغاية تطويق الأزمة في بدايتها ومعالجتها، قبل أن تتحول إلى مشكلة وطنية كبرى، تقض مضجع السلطة والنخب والرأي العام.
لم تزد حالة الفراغ الحكومي، التي عاشها المغرب شهورا، منسوب التوتر والاحتقان في الريف فحسب، بل أجهزت على مسار التحول الديمقراطي الذي يُفترض أن دستور 2011 جاء لإرساء مرتكزاته. ولذلك، فإن الجهات التي تسببت في تعطيل أجهزة الدولة وإداراتها عن القيام بمهامها طوال مدة ''البلوكاج'' مطالبةٌ اليوم بتحمّل مسؤولياتها كاملةً حيال أزمة الحسيمة، وهي جهاتٌ لا يقع حزب العدالة والتنمية ضمنها. هذا ما يريد قوله بنكيران، من دون أن يصرح به. من هنا دلالةُ دعوته الملكَ إلى التدخل شخصيا لحل هذه الأزمة، انطلاقا من صلاحياته
على الرغم من ذلك، يبدو زعيم "العدالة والتنمية" حريصا على عدم قطع شعرة معاوية مع السلطة، بتأكيده على مركزية الملكية في البناء السياسي والمؤسساتي المغربي، إذ اعتبر أنه ''إذا تعارضت هذه الملكية مع الحزب، فإن الحزب لن يتردّد في حل أجهزته''، مما يعني تذكيراً دالا باستراتيجية الحزب القائمة على العمل من داخل النظام، وبتوافق وانسجام كاملين مع القصر. لذلك، لم يتوان عن الدعوة إلى تعديل دستوري يمهد لتعاقد جديد بين الملكية والإسلاميين، ويتجاوز الاختلالات التي عرفتها الولاية الحكومية السابقة، ويعيد الثقة إلى المواطنين في العملين، الحزبي والسياسي.
وإذا كان بنكيران يشير، هنا، إلى تعديل دستوري ينعطف بالملكية عن مسارها التنفيذي الحالي في اتجاه مسارٍ برلمانيٍّ مفترضٍ، أو أقل تنفيذيةً على الأقل، فذلك يبدو ضرباً من الخيال، وعجزا عن قراءة التحولات الجارية في ميزان القوى، والذي تتجه السلطة، من خلاله، إلى إحكام قبضتها على الحقل السياسي والاجتماعي، بعيدا عن مقتضيات الوثيقة الدستورية التي قد تتحول إلى وثيقة للاستئناس ليس إلا.
ثم هناك أمر آخر، ما جدوى إصلاح دستوريٍّ في ظل عجز النخب عن الاضطلاع بمهامها وصلاحياتها التي يخوّلها لها الدستور؟ هل يريد بنكيران أن يقنعنا بأن تبني دستور آخر، أكثر وضوحا وصرامة في توزيع الصلاحيات بين القصر ورئيس الحكومة، سيجعل هذه النخب أكثر فاعليةً وقدرة على ملء حالة الفراغ السياسي المهول، التي دفعت الملك إلى صب غضبه على مختلف مكوناتها؟ المشكلةُ في ثقافةٍ سياسية تقليدية متجذّرة تتقاسمها السلطةُ والنخب، تشكل عائقا بنيويا يحول دون التأويل الديمقراطي للدستور.
ولعل أبرز ما أراد بنكيران إيصاله إلى الفاعلين الآخرين، من هاته التصريحات، أن إعفاء الملك محمد السادس له واستبداله بالعثماني لا يعني نهاية مساره السياسي، لا سيما في ظل عزمه الترشح لولاية ثالثة خلال المؤتمر المقبل لحزب العدالة والتنمية الذي يُرتقب أن يُعقد نهاية السنة الجارية، على الرغم من أن لوائح الحزب لا تسمح بذلك، الأمر الذي يمكن أن يُفسر تحديا واضحا للقصر، خصوصا بعد الخطاب الأخير للملك.
يعيد تأكيدُ بنكيران على عدم نفاذ ''صلاحيته السياسية'' إلى الواجهة ما حدث لزعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عبد الرحمن اليوسفي، الذي كان يُفترض أن يقود حكومة (2002 - 2007) بعد تصدر الاتحاد الاشتراكي نتائج انتخابات 2002، لكن القصر
وعليه، لا يبدو بنكيران منتبها إلى هذه الخاصية البنيوية التي تطبع النسق السياسي المغربي، فحزمةُ الأعراف والتقاليد والرمزيات السلطانية والمخزنية المتجذّرة في البنية الاجتماعية والثقافية، لا يمكن أن تسمح بإعادة الإنتاج السياسي بالوجوه والخطابات نفسها. وحتى إذا افترضنا أن في كلامه استقواءً بالشرعية الانتخابية التي مكّنت حزبه من تصدّر الاقتراع التشريعي، فهذه الشرعية تبدو معرّضة للتآكل، أكثر من أي وقت مضى، في ضوء ما يعرفه الحزب من تصدّع بعد تعيين العثماني، زيادةً على أن مسؤولية بنكيران قائمةٌ في تفريطه بصلاحياته الدستورية، حينما كان رئيساً للحكومة، وحرصه على عدم الاصطدام مع القصر، ومهادنته قوى الفساد والريع التي تعايش معها. ومن ثَمَّ، فإن حديثه اليوم عن إمكانية انتقاد سياسات الملك يعيد إلى الواجهة ازدواجية الخطاب لدى النخب المغربية بمختلف مكوناتها، وعجزها عن ترسيخ قيم الحداثة في الممارسة السياسية، بصرف النظر عمّا إذا كانت في السلطة أو المعارضة.
يتعلق الأمر، إذن، بأحلام يقظة سياسية خامرت رئيس الحكومة السابق، تعكس عدمَ فهم واضح للتركيبة الثقافية والسياسية والرمزية للسلطوية المغربية، وأيضًا سوء تقدير للتحولات التي يبدو أن الحقل السياسي مقبل عليها بعد الخطاب الملكي.