القصّة مستوحاة من أحداث واقعية. تقديمٌ يرى صانعو "دشرة" للتونسي عبد الحميد بوشناق أنه ضروريّ، لتأكيد مصداقية نصٍ يذهب بالسينما إلى نوعٍ غير حاضر بكثافة في النتاج البصري العربي. رعبٌ معقود على خليطِ الغرائبيّ بالواقعيّ، وإنْ يكن طغيان الأول أقوى من فعالية الثاني. السحر والشعوذة جزءان من متخيّل شعبيّ قادرٍ على الهدم والتفتيت. علاقة شعوب بهما تاريخية. الراهن غير محصّن، كثيرًا، أمامهما، رغم التطوّرات المختلفة، أو ربما بسبب التطوّرات المختلفة تلك، التي تشهدها البشرية منذ سنين مديدة، فإذْ بكثيرين يلجأون إليهما لأسبابٍ تبدأ من جهلٍ وعزلة، وتكاد لا تنتهي عند رغبة لاواعية (ربما) في مقارعة الواقع،
ومواجهة الراهن، والتصدّي لخراب اللحظة.
"دشرة" بيئة يُقيم فيها أناسٌ منعزلون عن العالم، والعالم هنا مقصودٌ به تونس وغيرها. بيئة صغيرة جدًا وضيّقة جدًا ومنعزلة جدًا. تعيش وفق قواعد خاصّة بها، تمامًا كجماعاتٍ منتشرة في أصقاع الدنيا، تريد ابتعادًا عن سلوك وعيش غير ملائمين لأهواء أناس منخرطين فيها (الجماعات). جماعات تضع قواعد صارمة يُفترض بالمنتمين إليها أن يلتزموا بها من دون نقاش أو تردّد، طالما أنهم موافقون على الانخراط بالجماعات تلك. ومع أنّ استثناءات قليلة تحدث، بمحاولة البعض الانشقاق عنها، إلاّ أن سطوتها أقوى وأعنف وأقدر على فرض نظامها على الجميع.
لكن "دشرة" تتحوّل إلى نوعٍ من تعرية إنسانية لأفرادٍ مقيمين في ثقافة منغلقة على اللاطبيعي واللاواقعي واللاعاديّ. ثقافة موغلة في خروجٍ واضح على تقاليد وأعراف ومسالك بشرية عامّة، كأن المنتمين إليها (الثقافة) مطمئنّون إلى هواجس تُشغلهم عمّا هو حاصلٌ خارج بيئاتهم. لكنه اطمئنان مرتبك عند ندرة متمثّلة بشابّة تحاول تحريض زائرة على فرارٍ من مصير تُدركه الشابّة، فتريد للزائرة خلاصًا غير متمكّنة هي منه.
والواقعيّ يقف عند حدود الغرائبيّ، ويختفي كلّيًا من المشهد منذ اللحظات الأولى لوصول ياسمين (ياسمين ديماسي) ورفيقيها وليد (عزيز جبالي) وبلال (بلال سلاطنية) إلى تلك البقعة الجغرافية، بحثًا عن موضوعٍ استثنائيّ ومغاير للمألوف اليومي، كمادة لنتاج بصري جامعيّ يطلبه أستاذٌ من طلابه. الواقعي غير ضروري، طالما أن الغرائبيّ منفذٌ إلى ابتكار صورة سينمائية موغلة في اللامتوقّع، المرتكز على مفردات السحر والشعوذة، والمفتوح على ماضٍ سيكون للطالبة الزائرة ارتباطٌ وثيقٌ به من دون أن تدري، وعندما تدري يكون الوقت متأخّرًا، ويكون المصير المحتوم نهاية لها ولرفيقيها ولمحيطين بها.
لن يكون مُهمًّا كشف النتيجة، فـ"دشرة" لعبد الحميد بوشناق ـ المعروض مساء اليوم الجمعة (2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) في بيروت، في إطار مهرجان "مسكون 3" لأفلام الرعب والفانتازيا والثريلر والخيال العلمي ـ يُعلنها مباشرة في نهاية مسار مضطرب. لكن "تعليق النهاية" و"إبقاء التساؤلات ملتبسة" و"الإيحاء بأجوبة ربما لن تكون حاسمة"، تبقى كلّها تفاصيل تبدو أهمّ فنيًا وأجمل دراميًا من قولٍ مباشرٍ لإعلان الحقائق كلّها في فصل أخير، يتميّز في "دشرة" بسرعته وسطحيته وقسوة اللغة المُباشرة فيه. عندها، تنكشف وجوهٌ مستورة خلف قناع صداقة أو زمالة، ويتّضح معنى إخفاء الجدّ سرّ عائلته عن حفيدته، و"تُعلَن" هوية "المجنونة" كاتبة مذكّراتها في تلك البيئة المنغلقة على عالمٍ أسود وقاتم وقاتل.
وإذْ يُنهي الفيلم سرديته، الممتدة على 113 دقيقة، بتعبير يليق بنتاجات وثائقية مختلفة (يقول التعليق: "في شمال أفريقيا، مئات الأطفال هم ضحايا السحر والشعوذة")، إلاّ أن السابق على هذه النهاية (أي الفترة الممتدة من وصول الثلاثي إلى "دشرة" وبداية إعلان الوقائع المخبّأة) يبقى الأهم سينمائيًا، لشدّة تماسكه الفني والدرامي والسردي، ولشدّة توغّله في تلك العوالم المُثيرة للقلق والارتباك والتوتر، تمثيلاً ونصًّا وتفاصيل ولقطات وكادرات، مُمَنتجة كلّها بناء على متطلّبات صناعة أفلام الرعب.