يبدو أن ثمن الحرب في اليمن باهظ جدًا. والثمن ليس فقط ذاك الذي يُدفع على أرض المعركة من قتلى وجرحى ونازحين ومشرّدين ومعاقين. وليس فقط ذلك الذي يُعلن عنه ليُخبرنا أن سبعة ملايين طفل في اليمن يعانون من الجوع وسوء التغذية، بل هناك ثمنٌ من نوع آخر؛ يبتلع صغيرات يمنيات، ويزجّ بهن في حفلات زواج مبكّر، كان المجتمع المحلي والدولي قد تعاون على الحدّ من الظاهرة قبل اندلاع الحرب بسنوات قليلة، إلا أن الحرب وتردّي الأوضاع الاقتصادية لليمنيين اليوم، أنعشتها، وأعادتها إلى الواجهة بقوّة.
قصصٌ وحكايات كثيرة، وإلى جانبها تقارير حقوقية، جميعها تؤكّد عودة الزواج المبكر، ولا تقتصر الأسباب على العادات والتقاليد الاجتماعية وغياب الوعي والجهل، فالأوضاع الاقتصادية باتت أحد دوافع تفاقم ظاهرة زواج القاصرات.
موقع "جيل" وهو يتتبّع تفاصيل هذا التطوّر توصل إلى أن الظاهرة لم تتفاقم على مستوى الريف والمناطق البعيدة التي رصدت فيها منظّمات حقوقية حالات زواج مبكّر كثيرة، وإنما في وسط العاصمة صنعاء، حيث لوحظت هذه الظاهرة مؤخرًا، ويتداول الناس حديثًا عن زواج صغيرات السن في أكثر من حي ومنطقة.
الفقر سبب جديد للظاهرة
في حي السنينة تروي فاطمة محمد (30 سنة) في حديث إلى "جيل"، وهي معلّمة في مدرسة الرسالة الواقعة في الحيّ، قصّة زواج طفلة تدعى رنا وتبلغ من العمر تسع سنوات، وتقول فاطمة إن والد الطفلة ينتمي إلى محافظة حجّة الواقعة إلى شمال صنعاء، وحالته المادية في غاية الصعوبة، ويواجه منذ بداية الحرب فقرًا وجوعًا "مزمنين"، وذلك بسبب الحرب وفقدانه عمله.
تضيف فاطمة أنها تعرف الأسرة جيّدًا لأنها من جيرانها، وتؤكّد أن والد الطفلة ظل يقترض مبالغ مالية من أحد أصدقائه، وكان يتوقّع انفراج أزمته سريعًا بعد انتهاء الحرب وعودته إلى عمله، إلا أن التوقّعات سارت عكس ذلك؛ وبسبب عدم قدرته على سداد القرض في ظرف ما زال يفتقر فيه للقمة العيش وأساسيات البقاء، أجبره صديقه على أن يقوم بتزويج ابنته رنا بأحد أبنائه، والبالغ من العمر 27 عامًا، على أن يكون المهر ذلك القرض الذي منحه إيّاه خلال العام الماضي، على حدّ قولها.
وتتابع فاطمة حديثها بالقول: "ذات يوم ذهبنا في زيارة مع بعض الصديقات إلى بيت والد الزوج الذي يسكن هو الآخر إلى جوارنا في الحي نفسه، وتربطنا بهم وبأسرة رنا علاقة مجاورة، فوجدنا الطفلة رنا بعد فترة الزواج بشهرين تقريبًا وهي تلعب مع الأطفال أمام المنزل، وتتشارك مع الصغار بعض الألعاب، شيء لا يصدق، ومشهد مثيرٌ للشفقة ومحزن جدًا".
التخفيف من الالتزامات الأسرية
من تحدّثنا إليهم وهم ناشطون حقوقيون، ومهتمّون بشؤون أطفال اليمن، أكدوا لـ "جيل" وجود حالات زواج مبكر كثيرة، ولا تختلف أسبابها عن أسباب حالة الطفلة رنا.
يقول الصحافي والناشط الحقوقي، نبيل الشرعبي، في حديث إلى"جيل": "ظاهرة زواج الأطفال في اليمن في الغالب لم تكن مرتبطة بالوضع والظروف الاقتصادية، بقدر ما هي مرتبطة بعادات وتقاليد وأعراف التجمّعات السكانية غير الحضرية بشكل أكبر، فيما جزء بسيط منها كان يعود للظروف الاقتصادية، فقد يقع الأب في بوتقة دين ويعجز على السداد، ويكون الحلّ هو تزويج ابنته لصاحب الدين، والذي غالبًا ما يعتقد أنه نال حقّه ولو كانت الفتاة قاصرة لا يهم".
ويضيف المتحدّث: "مع توسّع دائرة الضيق المالي وانعدام غالبية مصادر الدخل جراء الصراع والحرب التي تعصف باليمن منذ ما يقارب ثلاثة أعوام، وفي المقابل دخول كثير من اليمنيين في دائرة الدين والعجز عن السداد، ومثلهم رغبة أصحاب الديون في تزويج أبنائهم على اعتبار إزاحة همّ عن كواهلهم، دفعت هذه العوامل إلى توسّع زواج القاصرات بشكل أكبر مما كان عليه، وهنا أقصد زواج القاصرات بدافع توفير حاجيات الأسرة مما يتقاضاه الأب من المهر".
الجانب الآخر، والذي يصفه الشرعبي بأنه عزّز من قبول أشخاص بزواج بناتهم القاصرات وقد كانوا يرفضون ذلك من قبل، هو وصول هؤلاء الآباء إلى قناعة بأن القبول بتزويج ابنته القاصرة قد يساعد على التخفيف من التزاماته، وكذلك تحميل الزوج مسؤولية الإعالة، وهذه نتيجة غير مباشرة للأثر الاقتصادي الذي يعيشه البلد.
غياب تام للمنظمات
من جهته رئيس منظمة "سياج" أحمد القرشي، يؤكّد هذا التطور للظاهرة، ويقول في حديث إلى "جيل" إن تزويج الفتيات الصغيرات في اليمن وفي بعض البلدان العربية الأخرى هو جزء من ثقافة اجتماعية تغذّيها معتقدات دينية وسلوكية وأخلاقية، وهذه الأسباب معروفة، لكن في الحروب والنزاعات، كما هو حاصل في اليمن، ازدادت بنسبة كبيرة هذه الظاهرة وتفاقمت بشكلٍ كبير وفي معظم مناطق البلاد، وللأسف الشديد فإن آليات الحماية، سواءً من زواج الصغيرات أو غيرها من الانتهاكات والجرائم التي تمسّ الأطفال منعدمة ومنتهية تمامًا في اليمن وليست موجودة، خاصّة منذ عام 2015 وحتى الآن.
يُعدُّ الزواج المبكّر عادة شائعة في كثير من القرى اليمنية. ويدعم هذه الظاهرة ترديد الناس أحاديث وأحداثاً دينية تعزّز هذه الثقافة. والملاحظ أنّ كثيراً من المنظّمات الحقوقية التي واجهت الظاهرة وحقّقت إنجازات قبل الحرب من خلال نشر الوعي وتفاعل الناس، تراجعت بسبب الحرب التي أوقفت عملها، ما دفع الظاهرة للنمو بشكل أكبر اليوم.
القرشي، وهو رئيس منظمة شهيرة ومعنية بالطفل اليمني، أكد لـ "جيل" هذا الغياب على مستوى منظمته، حيث يقول: "لا توجد آليات حماية، فمنظمات حقوق الإنسان التي كانت ومن ضمنها منظمة (سياج) إما أنّها توقّفت عن العمل تمامًا أو أنها غيّرت في أولوياتها ومجالات عملها بحيث أصبحت أكثر تركيزًا على الغذاء والصحّة والمأوى وغيرها من الجوانب الأخرى، وبالتالي باتت هذه المشكلات الاجتماعية الخطيرة بعيدة عن الاهتمام وبعض المنظّمات لا توجد لها حماية أيضًا، القضاء متوقّف في كثير من المناطق اليمنية، الأمن والمؤسّسات الأمنية شبه منهارة وأصبحت غير قادرة على متابعة مثل هذه القضايا".
الزواج المبكّر في مخيّمات النازحين
لقد وسعت الحرب ظاهرة الزواج المبكّر لأسباب اقتصادية، كشفت عنها دراسة لمنظمة "أوكسفام" البريطانية. فقد أفادت بأنّ الظاهرة تتسع في تجمعات النازحين، خصوصًا في محافظة حجة الواقعة شمال اليمن، بعد أن كانت محافظتا الحديدة (غرب اليمن) وحضرموت (شرقًا) الأكثر تأثّرًا بها قبل الحرب.
مخاطر صحيّة تؤدي إلى الموت
يعتبر الزواج المبكر سببًا مباشرًا للحمل المبكّر الذي تنعكس آثاره الصحيّة الخطيرة على الفتاة، ويكون سببًا في فقدانها حياتها أو حياة جنينها، حسب حديث الطبيبة إيمان الحمادي، والتي أكدت تطوّر هذه المخاطر في ظل ظروف الحرب الراهنة السيئة بشكل كبير.
وتفيد المعلومات الطبية بأن سن الزواج يرتبط باكتمال نضوج جسم الفتاة وصحّته بشكل عام والصحّة الجنسية لها على وجه الخصوص.
ويلفت كثير من الأطباء اليمنيين إلى أنّ الزواج المبكّر "من أهم أسباب ارتفاع وفيات المواليد والأمّهات أثناء وبعد الولادة في اليمن". ويؤكّدون أن هذا الزواج يزيد من احتمالات الانهيار الصحّي للأمهات صغيرات السن أثناء الحرب، نتيجة لسوء التغذية وانعدام الرعاية الصحيّة بعد إغلاق كثير من المرافق الصحيّة وشح المياه الضرورية للنظافة وانعدام الدعم التشغيلي والدوائي للمستشفيات.
جدير بالذكر أن تقريرًا صادرًا عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن "أوتشا"، أكد أن النزاع والنزوح أدّيا إلى زيادة مخاطر العنف ضدّ المرأة، لا سيما العنف الجنسي، والعنف الأسري والزواج المبكّر. ويشير التقرير إلى أن 52 ألف امرأة من المحتمل أن يكن عانين من العنف الجنسي ويحتجن إلى الرعاية الطبية المنقذة للحياة والدعم النفسي والاجتماعي.
وكان زواج الصغيرات إحدى أهم القضايا الاجتماعية المثارة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي اختتمه اليمنيون قبل أكثر من عامين. وفيه تم اعتماد سنّ 17 عامًا كأدنى سن قانوني للزواج. لكنّ المسعى فشل بعد الفوضى التي حلّت في اليمن والحرب التي تلتها.
هل اليمن بحاجة الى "نجود" أخرى؟
تشير الأحداث والوقائع إلى أن ملف زواج القاصرات في اليمن حظي باهتمام عالمي ملفت، بسبب قصّة نجود الأهدل، والتي أُجبرت على الزواج من رجل يكبرها بنحو 20 عامًا وهي في سن العاشرة، قبل أن تصبح أصغر مطلقة في العالم. كان ذلك في عام 2008.
يُذكر أن نجود قالت عن يوم زواجها: "بعد عودتي من المدرسة جردني أبي من حقيبة الكتب وأعطاني ملابس جديدة وكثيراً من الهدايا والألعاب، ومنعني من الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي. وفي يوم عرسي ألبسني ملابس بيضاء وأعدّوا حقائبي وذهبوا بي إلى مسقط رأسي في محافظة حجة شمال اليمن بحجّة زيارة الأقارب، ثم تركوني في بيت جديد لا أعرفه".
وتضيف: "عندما كنت منشغلة باللعب أتى رجل كبير وحاول اغتصابي بالقوّة، فبدأت بالصراخ، ثم استدعى أمّه وأخته، اللتين صارحتاني بأن ذاك الرجل زوجي، لكنني لم أفهم فأمسكتا بي، وجعلتا الرجل يغتصبني حتى أغمي عليّ".
لم تعلم نجود ما حدث لها إلا حين استيقظت صباح اليوم التالي في المستشفى الذي نقلت إليه بصنعاء وكان جسدها مضرجاً بالدماء، حيث التقت المحامية شذى ناصر، والتي ساعدتها على التخلّص من هذا الزواج، عبر رحلة طلاق أخذت مساحة كبيرة من اهتمام وسائل الإعلام والرأي المحلّي والعالمي آنذاك.
عانت نجود من آثار نفسية لما حدث لها، لقد قالت حينها عن ذلك: "غالبًا ما تراودني كوابيس في المنام عن زواجي، وتنتابني قشعريرة عندما أتذكّر ما حدث لي أو أتحدث عنه، ويطاردني الرعب والخوف طوال يومي". وقد روت الصحافية الفرنسية ديلفين مينوي قصّتها في كتاب ترجم إلى أكثر من 16 لغة تحت عنوان "أنا نجود، أبلغ العاشرة ومطلقة"، وقد حوّل الكتاب إلى فيلم سينمائي بإخراج خديجة السالمي.