قال الكاتب الإسباني خوان ميّاس، ذات مرة، إن أحد القراء عبّر له عن إعجابه بروايته الجديدة، وختم بأنها "رواية غريبة جداً". ميّاس لم يجد ردّاً على القارئ، لكنه تساءل: "كيف يمكن أن تكون الرواية رواية إن لم تكن غريبة؟".
السؤال الذي يطرحه ميّاس ليس سؤالاً استفهامياً كما يبدو من السياق، بل سؤالاً تقريرياً يحمل تصوره للفن، وهو واحد من تصورات عديدة تتسق في معظم الأحيان مع كتابات الكُتّاب (أحيانًا تخالف كما هو في حالة ميلان كونديرا، يتحدث عن جماليات فيما يقدّم في أعماله جماليات معاكسة تماماً).
تصوّر ميّاس لا يختلف في شيء عن تصوّر الكُتّاب الذين يتكئون على الخيال ليشيدوا عوالمهم العجائبية داخل النص السردي، ليتحول الغريب إلى عادي ومألوف، ويصير ما لا يمكن حدوثه حدثاً خاضعاً لمنطق الرواية، فيتشكّل بذلك عالم موازٍ (بتعبير أمبرتو إيكو) في مواجهة العالم الواقعي. عالم ليس في حقيقته إلا صورة مكبرة منه، يستطيع أن يكشف تفاصيله الصغيرة التي لا يلتفت لها أحد، في العادة، فتظهر في حجم مكبر لتبان غرائبيتها.
لا يكون الواقع، طبقاً لهذا المنظور، جديراً بإعادة إنتاجه مرة أخرى في نص أدبي، بل يحتاج هذا الواقع إلى معالجته فنياً وإلقائه في مجمرة الفن ليخرج لنا شيئاً آخر، شيئاً "غريباً" يشبه الواقع لكنه ليس هو. الأشياء الصغيرة الهامشية تشكّل متنه، وبتكبيرها تظهر غرابة الواقع، وتطفو الأسئلة التي تسكن في العمق الإنساني على السطح، فنرى طرافتها أو قتامتها، لكن المؤكد أنها تحمل غرائبيتها أيضاً.
هنا يأتي تحديداً سؤال الشكل والمضمون، مجدداً سؤال الشكل والمضمون. فالكُتّاب الذين يكتبون روايات منحرفة عن الواقع (بتعبير الروائي طارق إمام) يرون أن الثيمات قليلة والأسئلة الإنسانية محدودة، بينما الشكل متسع، يمكن اللعب فيه ومعه. يرون أن الفن ليس فقط أن يكون لديك حكاية، بل كيف يمكن أن تحكي الحكاية بشكل جديد، بطريقة مختلفة، وحتى بفكرة جديدة تبدو للوهلة الأولى دخيلة على الواقع ثم ما تلبث أن تعرف أنها الواقع بشكل آخر، مختلف.
الرواية "الغريبة" التي تحدّث عنها ميّاس هي "المرأة المجنونة" التي صدرت بالإسبانية منذ شهور، والتي تتحول فيها الكلمات والعبارات إلى شخصيات رئيسية في العمل، تحاور البطلة لتسألها عن ماهيتها. هكذا تدخل كلمة من الشباك لتستريح على ورقة بيضاء لتجرى لها عملية جراحية لأنها لا تجد لها مكاناً في القاموس، فيطرح ميّاس من خلال ذلك سؤال الهوية والاتساق مع الذات، الاختيار الصعب بين أن تكون موجوداً أو سعيداً.
الرواية "الغريبة" ليست رواية الواقعية السحرية، التي تقوم على التراث الشعبي أو المخيلة الجمعية، أو ما يمكن أن يسمى بـ"الفانتازيا الشعبية"، وإن كانت تتشابه معها أو تقع في الخندق المجاور لها، بل هي رواية تتخذ من الخيال الفردي فانتازيتها الخاصة، دون أن يكون لذلك سند في الواقع وإن كان يمكن تأويل نصها وردّه إلى سؤال نابع من الواقع. مع ذلك، تسير الرواية "الغريبة" بجانب رواية الواقعية السحرية بجانب رواية الواقعية الجديدة (التي تنتمي إليها رواية ساراماغو بحسب زوجته بيلار دل ريو)، جنباً إلى جنب، ليطرح كل منها سؤال الإنسان على طريقته.
سؤال الرواية الغريبة، أو ما يمكن أن نطلق عليه جمالية الاختلاف، هو السؤال الأهم الآن الذي يجب أن يشغل الرواية العربية. الآن أكثر من أي وقت مضى، لأن الأحداث السياسية الأخيرة، الممتدة منذ أربعة أعوام، سيكون لها الأثر السلبي على هذا الفن إن استجاب للتفاعل السريع معها، وإن لجأ للواقعية التوثيقية لتبرئة الضمير واتخاذ موقف واضح منها. الفن الروائي، في نهاية المطاف، لا يطمح أن يكون صورة فوتوغرافية أو فيلماً وثائقياً، بقدر ما يطمح أن يطرح قضايا خالدة تمسّ الإنسان وهشاشته وأزماته، حتى في ظلّ الحدث الكبير.
ولا يجب أن ننسى، في ظلّ الانتفاضات والقمع والمطاردات، أن الكاتب الكبير خوان غويتيسولو شعر ببعض الندم على أعماله الأولى التي تورّطت بواقعية تصويرية في الحرب الأهلية الإسبانية، وقال بكل وضوح إنه كتبها تحت ضغط التوثيق ليس أكثر، وهو ما دفعه بعد تلك المرحلة للكتابة التجريبية في الروايات التالية، بعد أن هرب من أسر الحدث السياسي، لتكون بذلك رواياته الأكثر تأثيراً، دون أن تتخلى هذه الأعمال عن السؤال والهاجس، ودون أن يصبح التجريب مجرد البحث عن "شكل".
* روائي من مصر