سبت مصر الأسود

06 ديسمبر 2014
+ الخط -
ربما في عالم آخر، وزمن آخر، وحتى كوكب آخر، لم نكن لنشهد على ما حصل يوم السبت 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. كان كل شيء سيكون مجرّد "فكرة سيئة"، أو "كابوساً جاثماً على الصدور"، في حال أردنا تخيّل براءة الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، ومعاونيه من سياسيين وأمنيين، في جريمة قتل المتظاهرين، في ثورة 25 يناير. مؤلم إدراك أن التغيير لم يطرق أبواب القضاء المصري، ولا الممارسات السياسية في القضاء. مؤلم معرفة أن مبدأ "رجل أمن لكل 76 مواطناً" في مصر طغى على حكم محكمة جنايات القاهرة في "السبت الأسود"، بدلاً من شعار الثورة: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية".
فلو قيل لأي مشارك في ثورة يناير، منذ ثلاث سنوات ونيّف، إن "مبارك سيخرج من السجن، وبيده سند البراءة أيضاً"، ربما لم يكن ليشارك في الثورة أساساً، أو لكان أشبع محدّثه ضرباً. فالثورة تجرف، وتمحي الماضي، وتبني المستقبل. الثورة أقرب إلى مفهوم "الفوضى الخلّاقة". هكذا علّمنا التاريخ، وهكذا تطوّرت أم الثورات: الثورة الفرنسية. ومعلوم أن لا وقت محدّداً لنتائج أي ثورة. فلكل بيئة اجتماعية ديمغرافية، مع تراكماتها المعرفية وخلفياتها الدينية والطبقية، خصوصيتها. ومن الثورات ما تأخذ عقوداً (فرنسا مثلاً)، ومنها ما تبدأ بجني الثمار في سنوات معدودة (تونس نموذجاً). ومن المفترض، بناءً على ذلك، ألا يخشى الشعب من عودة الديكتاتورية، لأن المسار التراكمي لأي ثورة سيتيح بروز قوى متعددة، ستُفرز شيئاً جديداً تماماً، ولن يؤدي إلى عودة الماضي، تحت أي شكل. ولكن.
ما حصل في مصر، يُعتبر "ثورة عكسية"، أو عودة بالزمن إلى اللاشيء، إلى ما قبل 25 يناير/ كانون الثاني 2011، إلى الرتابة المتحكّمة برقاب الشعب المصري، وإلى الروتين الذي لا يفيد الشعوب، بل يكتفي برفد خزائن الحكام بمزيد من الأموال، في ظلّ محاولات تكريس الجهل المعرفي للسكان. إلى هناك، عادت مصر في حكم تبرئة مبارك. لم يعد الكلام عن حرية مقموعة في السجون المصرية، بل أضحت الأمور أقرب إلى "رواية مأساوية"، تتخطى عناصر اكتئاب الكاتب التشيكي، فرانز كافكا، بمستويات "كمالية".
في هذه الحمأة، تمرّ المشاهد أمام ذاكرة التاريخ سريعاً: ميدان التحرير، شارع محمد محمود، مجزرة كوبري 6 أكتوبر، موقعة الجمل، الصدامات بين المتظاهرين ورجال الأمن، الثوار الحالمين بمستقبل جديد لمصر، بعيداً عن حمل جمال، نجل حسني مبارك، على الأكتاف، لتكريس تحدٍّ كروي بين مصر والجزائر. لن ينسى التاريخ تدوين أن ماهينور المصري ورفاقها أودعوا السجون، ولا أن أعداداً غفيرة من المتظاهرين قُتلوا. سيذكر التاريخ، أيضاً وأيضاً، أن سوزان مبارك، زوجة الرئيس المخلوع، كانت جزءاً من منظومة الفساد. لن يخدع التاريخ أحداً، حين يُذكر أن مئات الاعلاميين والفنانين والممثلين ورجال الأعمال تقلّبوا من ضفّة إلى أخرى، ومن موقعٍ إلى آخر. مع النظام المخلوع، ثم مع الثورة، ثم ضدها، وبعدها العودة إلى أحضان مبارك.
هذا كل ما ظهر في "السبت الأسود" المصري. هذا غير وقوف أهالي الضحايا خارج المحكمة وخلف شاشات التلفزيون، وفي الميادين البعيدة، وهم يرون أن دماء أولادهم ذهبت هدراً. خارج سياق الثورة وخارج سياق المسار الطبيعي لكل الأمور. مأساة ما نشهده في مصر، تبرئة نظام على أفعاله طوال 30 عاماً، ثم تبرئته من ارتكاباته ضد الثورة. مؤسف إدراك أنه في ظلّ التطور التقني ومواقع التواصل الاجتماعي، أي، في زمن بات فيه كل شيء متاحاً، تقريباً، أن ينجح مبارك في رفع يده، وسماع القاضي يقول له "براءة".
لا يكمن الجزع في مصر فحسب، بل سيرتدّ إلى مختلف الدول العربية، فهل يُمكن، بعد اليوم، محاكمة رئيس ديكتاتوري، من دون "المخاطرة" في إعلان براءته؟
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".