كنتُ وأحد أبناء عمومتي نحاذي الحدود السورية العراقية، يأخذنا (بيك آب) من اليعربية باتجاه جنوب الرد، كان ذلك في أثناء الحرب على أفغانستان طالبان، حيث الصور تتوالى من هناك، الضربات وصور البيوت المفجوعة وأشكال الناس المقهورين والبدائية والأسماء الغريبة على أسماعنا ومنها "تورا بورا"، ولكثرة تكرار هذا الاسم تساءل الكثيرون عن معناه أكثر من تساؤلهم عن مصير هذه المنطقة، التي ابتليت بأكبر قدر من جرعات الطيران الأميركي، مما حدا بعجوز متفاصح وحانق أن يترجمها بـ"خيطي بيطي" وعندما ألحَّ السائل وما هي "خيطي بيطي"، قال: "يعني ولا شيء".
كانت الطريق التي نسلكها آنذاك تبدو غريبة على كلينا، كما لو أننا نمشي فيها للمرة الأولى، ذلكَ أن رفيقَ رحلتي وبعد فترة سكون نطقَ: "انظر كم تشبه هذه البيوت بيوت الأفغانيين" وكأنّه يكتشفها للتو، ثم قالَ: "الفرق الوحيد بينها وبين بيوتنا، أن تلك تعرض على الشاشة، وانتظر في المستقبل عندما ترى هذه أيضاً عبر الشاشة وهي تُدك كما تدك أفغانستان"، ضحكتُ كثيرا، بل واستهزأت به، لطالما أفهمته أننا غير كل شعوب العالم، ونحن بلد الحضارات، ثم ما الذي يجنيه طيار أو مقاتل من هدف بائس، يكفي أن تمر الطائرة في سمائه ليتهدّم، وتناسيتُ أننا معا تابعنا الجندي الأميركي في العراق وهو ينظر من قبعة دبابته إلى أرض خالية من الشجر والبشر فيقول: "لا أتصور أن هذه الأرض (الزبالة) كانت مهداً للحضارات!، ولم يكن في تصوري يوماً أنَّ تلك القرى البائسة بناسها وحيواناتها ونسائها (الورّادات) حاملات الماء على رؤوسهن من مسافات طويلة، يتحايلن على الملح والدود في البرك، التي تتركها الأمطار القليلة، فتكون شراباً للبشر والحيوان وللاغتسال أيضاً، لم أتصورها عرضة للقتل والتجويع والترويع والنهب والتبارز، ولطالما سمعت عن النقطة (الاستراتيجية) في حين هي لم تكن إلا أطلالاً من التراب والحياة القليلة التي تدب فيها بالكاد تجعلها على مرمى أحلام لينة لا تتجاوز تحصُّل لقمة العيش بكرامة والحفاظ على العرض والأرض التي أساساً لم تكن مدعاة للقتال لقلة مواسمها ونضوب ضرعها نحوَ التصحر، وقد عملت دولة الأمن البعثية على ذلك جاهدة، ومنها عرفنا كيفَ أن الدولة (الوطنية) تقتل رعاياها بشكل ممنهج، مما يقربها من مقولة لـ (فقيد) الإسلام الاستبدادي، الحجاج المبير (طيب الله ثراه):" من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غما".
هؤلاء سكتوا وحين لم يموتوا بدائهم غماً، جاءتهم وحوش ووحوش فأفاضت عليهم بالسوءات والموات والتغريبة، وإن كانت المياه مالحة وفيها من الدود والتأسن فهي اليوم والسفراء الجدد، اختلطت ماؤهم بدمائهم ولحمهم بلحم دوابهم، وصوت نشيجهم ببكاء أطفالهم، ما أوحش هذه الحياة! قالها قائل، وأدار وجهه عن طفل مسلح خشية أن يثير غضبه، فيفرغ ما في جوف الحديد في جوفه الخاوي.
ربما ليسوا ملائكة بلباس يشبه لباسنا، هؤلاء الذينَ اختارتهم القوة ليكونوا سفراء لنا، ولم يكونوا أنبياءً ودعاة صالحين هؤلاء الذين اختارتهم مللهم ونحلهم ليكونوا سفراءها، وما التصادم الحاصل في أيامنا السوداء هذه إلاَّ الخطأ في إيصال الرسائل، وربما تأتي القراءة على عكس ما يراد منها، فتأتي فجة ومشوشة وقاتلة، كأن يدعو داعٍ وبكل سِفارة وغشاوة وغشم بقتلِ من عاش معهم، ذلكَ أن طولاً أصاب لسانه ووقراً سدَّ أذنيه وطبقة سميكة من الدسمِ غَلّفت عقله إذ أخذته قوة زائفة، أصابت غيره وطالت أمداً، ثم انكفأت إليه لتكون خازوقا في أسفلهِ ووبالاً على حاله وحال من حاش بهِ، فكانَ بدعواه أقرب إلى بهيمة تفتك بمن حولها وعلى مرأى مثيلاتها في غابة رطبة مترامية الأطراف بسوادها.
هل حقاً كانوا سفراءَ.. نعم كانوا وفوق الوهم وليس فوق العادة!
(سورية)
كانت الطريق التي نسلكها آنذاك تبدو غريبة على كلينا، كما لو أننا نمشي فيها للمرة الأولى، ذلكَ أن رفيقَ رحلتي وبعد فترة سكون نطقَ: "انظر كم تشبه هذه البيوت بيوت الأفغانيين" وكأنّه يكتشفها للتو، ثم قالَ: "الفرق الوحيد بينها وبين بيوتنا، أن تلك تعرض على الشاشة، وانتظر في المستقبل عندما ترى هذه أيضاً عبر الشاشة وهي تُدك كما تدك أفغانستان"، ضحكتُ كثيرا، بل واستهزأت به، لطالما أفهمته أننا غير كل شعوب العالم، ونحن بلد الحضارات، ثم ما الذي يجنيه طيار أو مقاتل من هدف بائس، يكفي أن تمر الطائرة في سمائه ليتهدّم، وتناسيتُ أننا معا تابعنا الجندي الأميركي في العراق وهو ينظر من قبعة دبابته إلى أرض خالية من الشجر والبشر فيقول: "لا أتصور أن هذه الأرض (الزبالة) كانت مهداً للحضارات!، ولم يكن في تصوري يوماً أنَّ تلك القرى البائسة بناسها وحيواناتها ونسائها (الورّادات) حاملات الماء على رؤوسهن من مسافات طويلة، يتحايلن على الملح والدود في البرك، التي تتركها الأمطار القليلة، فتكون شراباً للبشر والحيوان وللاغتسال أيضاً، لم أتصورها عرضة للقتل والتجويع والترويع والنهب والتبارز، ولطالما سمعت عن النقطة (الاستراتيجية) في حين هي لم تكن إلا أطلالاً من التراب والحياة القليلة التي تدب فيها بالكاد تجعلها على مرمى أحلام لينة لا تتجاوز تحصُّل لقمة العيش بكرامة والحفاظ على العرض والأرض التي أساساً لم تكن مدعاة للقتال لقلة مواسمها ونضوب ضرعها نحوَ التصحر، وقد عملت دولة الأمن البعثية على ذلك جاهدة، ومنها عرفنا كيفَ أن الدولة (الوطنية) تقتل رعاياها بشكل ممنهج، مما يقربها من مقولة لـ (فقيد) الإسلام الاستبدادي، الحجاج المبير (طيب الله ثراه):" من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غما".
هؤلاء سكتوا وحين لم يموتوا بدائهم غماً، جاءتهم وحوش ووحوش فأفاضت عليهم بالسوءات والموات والتغريبة، وإن كانت المياه مالحة وفيها من الدود والتأسن فهي اليوم والسفراء الجدد، اختلطت ماؤهم بدمائهم ولحمهم بلحم دوابهم، وصوت نشيجهم ببكاء أطفالهم، ما أوحش هذه الحياة! قالها قائل، وأدار وجهه عن طفل مسلح خشية أن يثير غضبه، فيفرغ ما في جوف الحديد في جوفه الخاوي.
ربما ليسوا ملائكة بلباس يشبه لباسنا، هؤلاء الذينَ اختارتهم القوة ليكونوا سفراء لنا، ولم يكونوا أنبياءً ودعاة صالحين هؤلاء الذين اختارتهم مللهم ونحلهم ليكونوا سفراءها، وما التصادم الحاصل في أيامنا السوداء هذه إلاَّ الخطأ في إيصال الرسائل، وربما تأتي القراءة على عكس ما يراد منها، فتأتي فجة ومشوشة وقاتلة، كأن يدعو داعٍ وبكل سِفارة وغشاوة وغشم بقتلِ من عاش معهم، ذلكَ أن طولاً أصاب لسانه ووقراً سدَّ أذنيه وطبقة سميكة من الدسمِ غَلّفت عقله إذ أخذته قوة زائفة، أصابت غيره وطالت أمداً، ثم انكفأت إليه لتكون خازوقا في أسفلهِ ووبالاً على حاله وحال من حاش بهِ، فكانَ بدعواه أقرب إلى بهيمة تفتك بمن حولها وعلى مرأى مثيلاتها في غابة رطبة مترامية الأطراف بسوادها.
هل حقاً كانوا سفراءَ.. نعم كانوا وفوق الوهم وليس فوق العادة!
(سورية)