المتأمل في رسوم التشكيلي سمير مخلوف المعروضة حالياً في "رواق المدينة العتيقة" في العاصمة التونسية، يلاحظ بسرعة أن العنصر الجامع فيها هو البعد المعماري، لا سيما وأن مبدعها مختص في هندسة تخطيط المدن.
يرسم مخلوف المشهد من كافة الجهات: من تحت، من فوق، من خلال نظرات تتفاوت في ابتعادها وقربها من المشهد المرسوم، وقد تكون جانبية أو متقهقرة أو متّشحة. ولدى الفنان طريقة فريدة في رسم شخوصه، فهي تبدو متموّجة وطيّعة في الفضاء، وكأنها تتحرك طوع الريح. تتغلب الأشكال على قانون الجاذبية وتأخذ هيئات جديدة، كما يحلو لها.
وفي ما يتعلق بعنصر التلوين، يبدو أن ثمة مرحلية منظّمة. ففي الرسومات الأولى، تكاد تنحصر الألوان في تنويعات اللونين البني والرمادي، وهي ألوان الطين والإسمنت المسلّح. في المقابل، يغلب على الأعمال الأخيرة الألوان الزاهية، المرحة، الباعثة على الابتهاج والانشراح، إذ يغيب البني والرمادي لصالح تشكيلات حمراء وخضراء وصفراء وزرقاء، وتصطف الألوان في اتساق بديع. كأن الفنان هنا يلخّص تمدّن حياة الإنسان والانتقال الفجائي من عمارة الطين المشوي إلى الأبنية المشيّدة من مواد مصنّعة.
لفهم عالمه التشكيلي، يقدّم مخلوف لنا بعض الإضاءات، في كتابه "بستاني الخمسة عشر مساء"، حيث يقول، متحدثاً عن افتتان الإنسان المعاصر بإنشاء البنايات والتعمير والحدائق: "يتعاملون مع عمارة أحيازهم الداخلية كما لو أنها جلدٌ ثانٍ، لمّ من اللباس أو الزينة اللذين ندخل بهما كل يوم إلى النهار". والبيوت، بحسب رؤيته الشعرية، صنعتها أيادي "نحاتي الفيزياء المجهرية". ورغبةً منه في التحرر من عالم الثبات والجمود الذي يطوّق الإنسان، يمدّ مخلوف العمارة بقدرة على الحراك.
في لوحاته، تنفخ الريح في البنايات، مثلما الأشرعة، فتجعلها مخرّمة، متموّجة، متراقصة. وفي غمار الكائنات السابحة في الفضاء والعمارات الراقصة، قد يفاجئنا مخلوف بتصاميم حديثة لآلات تولّد الطاقة النظيفة، مثل الماكينة الأرجوانية الطائرة التي تظهر على شكل أثداء ضخمة نصف ميكانيكية نصف بشرية، تطفو في الجو، وتذكّرنا بـ "سيارة 1970" التي عرضها سنة 2006 في "رواق المدينة". كأن الرسوم شظايا أحلام أو هذيان فتى متّقد الذهن أو تخاريف مجاذيب ومتصوفة يغرفون من حوض المعرفة المحجوب عن سائر البشر.
يرسم مخلوف بعين الطفل الضاحك العابث، كما في "أوتوبورتريه النعاس أو لوحة تعقيد"، ويلجأ إلى الدعابة والتفكّه، كما في رسمه شخص خرافي منتفخ بالشحم والودك، يتنزّه على متن دراجة. هل تحمله الدراجة الهوائية أم هو الذي من المفروض أن يحملها؟
في لوحات "السفينة السكرى" و"الريح" و"العمارة" و"فتاة الطائرة الورقية"، تبدو اللطخات اللونية وقد خدّدتها على القماشة يد راكب منطاد أو أرجوحة، ما يمنحها رؤية انسيابية انزلاقية مثل لقطات الإعادة البطيئة لمشهد ما.
أسرّ مخلوف لـ"العربي الجديد" عن انشغاله منذ سنوات بتطوير نظرية في الفيزياء تتمحور حول علاقة بين مفاهيم ثلاثة هي المعمار والكون والبيولوجيا. تغوص هذه النظرية عميقاً في نويات الخلايا وجذورها المتناهية الصغر، ويحاول الفنان من خلالها فهم منطق الفكر البشري، مستعيناً في عمله البحثي بالفلسفة والشعر وكل العلوم والفنون التي تتيح له قراءة معمّقة للعالم ومعنى الوجود. وإذا كانت العمارة منطلقاً لإبداعاته، فإنها ليست المنتهى، بل مجرّد بوابة لطرق عوالم بكر.
وفي هذا المنحى، يقول عنه الناقد التشكيلي علي اللواتي: "إنه يرى، أسوة بالمعماريين التفكيكيين، أن العمارة في جوهرها لا تُعرف فقط بخصائصها التقليدية كإنجاز وظيفي ومكتمل مغلق، وبالأخص، بل في قدرتها على المساءلة والدفع إلى قراءات في اتجاهات مختلفة".