لم يعد سراً يذاع أن معاناة السوريين وبؤسهم خلال العقود القليلة الماضية وبصورة خاصة خلال أعوام الثورة تنبع من الاستبداد المتوحش الجاثم فوق صدورهم منذ عام 1970، كما لا يتمارى اثنان على خصوصية هذا النظام وتفوقه الاستثنائي على معظم نظرائه من الأنظمة الديكتاتورية التي يحكمها فرد مطلق السلطات.
وكذا لا يشك سوريان منعتقان من عبودية الأسد في أن جميع السوريين بمختلف طوائفهم وقومياتهم ضحايا لطغيان نظام الأسد، تارة عبر اضطهادهم والتمييز ضدهم على أسس طائفية، وتارة عبر استخدامهم وتجنيدهم في معركة بقائه هو من خلال ربط مصيرهم بمصيره.
ورغم ذلك يجادل بعضهم في بواعث الثورة السورية المجيدة، ويغرق آخرون في نزع أي صفة طائفية عن نظام الأسد، في سلوك مثالي يسعى على ما يبدو إلى تبرئة الطائفة العلوية (النصيرية) من جرائم النظام، وبالتالي الحفاظ على السلم الأهلي والاجتماعي، لكن هذا المسلك العاطفي والسطحية في النظرة إلى الأمور لا تغني عن ضرورة تحليل الواقع وتحديد أبعاد الأزمة وتفكيك عناصر الاستبداد والإجرام، بل لا ينبغي لمن يحرص على السلم الأهلي والوحدة الوطنية بين السوريين أن يحجب شيئاً من الواقع تحت أي ذريعة كانت.
إن علاج أي مرض لا يبدأ إلا من معرفته وتشخيصه بدقة والإقرار بوجوده ليتمكن الجميع من تلقي العلاج المناسب بجدية تعكس الإدراك الكامل لأهمية العلاج، ومن ثم لن يتمكن السوريون من تأسيس عقدهم الاجتماعي الجديد الذي يصلح من حالهم ما أفسدته عقود الفساد والقمع والجريمة المنظمة إلا عندما يقرون بداء الطائفية الذي يستبد بجسدهم الوطني، والذي لم تخلقه الثورة، بل لم تزد على أن فضحته وأبانت أعراضه وكشفت جرثومة الاستبداد التي تسببت به.
لم تنشأ سلطة قمعية في التاريخ إلا وقدمت نفسها كحل لمشكلة عامة، واستمدت ديمومتها وشرعيتها من التلاعب بعواطف الجماهير واللعب على تناقض مكوناتهم، سواء كانت طبقية أو طائفية أو عرقية أو مناطقية، وبهذا المعنى لم تكن سلطوية آل الأسد استثناء، ورغم أن العادة في هذه الأحوال جرت على أن تكون دائرة الحكم والنفوذ موزعة على شخصيات تتلاقى مصالحهم الشخصية والفئوية عند شخص المستبد، الذي يحظى بحصة الأسد لكنه لا يتجرأ على تجاوز معادلة النفوذ القائمة، فإن حافظ الأسد مؤسس النظام السوري الحالي تمكن من تجاوز كل المعادلات المحلية، واستأثر لنفسه بكل النفوذ، وترك الفتات، خاصة في المستوى المادي، لحلقة ضيقة حوله لضرورة تسيير أمور النظام، وحكم الجميع بشبح الأمن، وهو ما لا يمكن أن يفسر عادة بدهاء رجل السلطة الطامح فحسب، بل لا بد له من أن يحظى ببيئة اجتماعية فئوية كاملة الولاء لشخصه، تمكنه من انتقاء رجاله من عمقها، بحيث يمرون في فلاتر سلوكية عديدة يضمن من خلالها أن يحاط بعديمي الضمير عبيد المال والشهوات، فيحركهم المستبد كدمى كيفما شاء.
على هذا النحو أسس الأسد الأب أحد أكثر الأنظمة وحشية وقمعاً في العالم، حتى بات الأخ يخشى من أن يشي به أخوه من أمه وأبيه وهما في بيت واحد.
منذ البداية قدم الأسد الأب نفسه للطائفة العلوية في سورية باعتباره القائد المخلص لها من الفقر والتهميش، ورغم أنها خرّجت عشرات بل مئات المثقفين المعارضين للنظام بشراسة، ظلت الطائفة بصفة غالبة، وفية لمن اعتبرته ولي نعمتها، لا تغير في ولائها ولا تبدل، بل مارس متنفذوهم أسوأ تمييز عرفه المجتمع السوري على الإطلاق، وأفرغت في المجتمع عقد التهميش والفقر والخوف التي كانوا يعيشونها، لدرجة أن الشعب السوري الذي كان على مدى عقود يئن تحت وطأة القمع السياسي ونهب المال العام وانتشار الفساد، لم تحركه هذه المعضلات، إلا أن الطائفية الفجة التي مارسها النظام من أعلى الهرم حتى أدناه، والتمييز ضد الأغلبية العربية السنية بوجه خاص، وبقية الطوائف والأقليات بوجه عام، فجرت ثورته بوصفها أبرز بواعثها الرئيسية.
ولوحظ ذلك في تقييم حالة المدن والقرى والأحياء التي انطلقت منها الثورة في عموم المحافظات السورية، بعد اشتعال الفتيل في درعا، فالأحياء الحمصية واللاذقانية والدمشقية التي كان لها احتكاك وجوار مع تجمعات سكنية من العلويين، كانت أول من استجاب لنداء مظاهرات الأموي ودرعا، ورغم هذا الشعور البارز بالاضطهاد الطائفي طغت على المظاهرات التي خرجت في هذه الأحياء ولا سيما في الشهور الأولى شعارات السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية، ونادت جميع تلك المظاهرات منذ الأسبوع الأول "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد".
عندما خرجت من سجون الأسد في 4 يونيو/حزيران 2011، وكان قد مضى على اندلاع الثورة شهران ونصف الشهر تقريباً، راجعت فرع فلسطين الذي كان قد أحالني إلى محكمة أمن الدولة وظل الفرع المسؤول عني، بقصد استخراج إذن سفر، واستغرقت المراجعة ساعات طويلة، عرضت خلالها على المحقق "هواري" الذي كان قد تولى قضيتي عندما حطت بي رحال السجن في هذا المكان المقتطع من جهنم، فطالعني بابتسامة الممتعض، وصارحني بأنه لو كان مكان رئيسه بشار الأسد لما أطلق سراحي ولا سراح أحد من الذين شملهم العفو آنذاك، وتابع بالقول: "أنا لست علوياً ولا طائفياً، ولكنني عاشرت العلويين وهم ليسوا كما يشاع عنهم، وفي المقابل ها هم السنة قد جُنوا وخرجوا إلى الشوارع يريدون هدم الدولة وتخريب مؤسساتها، ولا أحد يعرف ماذا يريدون"!
هي قصة واقعية تشير برمزية شديدة إلى عمق المأزق وحجم المتاهة التي جر حكم آل الأسد بلادنا إليها.
وكذا لا يشك سوريان منعتقان من عبودية الأسد في أن جميع السوريين بمختلف طوائفهم وقومياتهم ضحايا لطغيان نظام الأسد، تارة عبر اضطهادهم والتمييز ضدهم على أسس طائفية، وتارة عبر استخدامهم وتجنيدهم في معركة بقائه هو من خلال ربط مصيرهم بمصيره.
ورغم ذلك يجادل بعضهم في بواعث الثورة السورية المجيدة، ويغرق آخرون في نزع أي صفة طائفية عن نظام الأسد، في سلوك مثالي يسعى على ما يبدو إلى تبرئة الطائفة العلوية (النصيرية) من جرائم النظام، وبالتالي الحفاظ على السلم الأهلي والاجتماعي، لكن هذا المسلك العاطفي والسطحية في النظرة إلى الأمور لا تغني عن ضرورة تحليل الواقع وتحديد أبعاد الأزمة وتفكيك عناصر الاستبداد والإجرام، بل لا ينبغي لمن يحرص على السلم الأهلي والوحدة الوطنية بين السوريين أن يحجب شيئاً من الواقع تحت أي ذريعة كانت.
إن علاج أي مرض لا يبدأ إلا من معرفته وتشخيصه بدقة والإقرار بوجوده ليتمكن الجميع من تلقي العلاج المناسب بجدية تعكس الإدراك الكامل لأهمية العلاج، ومن ثم لن يتمكن السوريون من تأسيس عقدهم الاجتماعي الجديد الذي يصلح من حالهم ما أفسدته عقود الفساد والقمع والجريمة المنظمة إلا عندما يقرون بداء الطائفية الذي يستبد بجسدهم الوطني، والذي لم تخلقه الثورة، بل لم تزد على أن فضحته وأبانت أعراضه وكشفت جرثومة الاستبداد التي تسببت به.
لم تنشأ سلطة قمعية في التاريخ إلا وقدمت نفسها كحل لمشكلة عامة، واستمدت ديمومتها وشرعيتها من التلاعب بعواطف الجماهير واللعب على تناقض مكوناتهم، سواء كانت طبقية أو طائفية أو عرقية أو مناطقية، وبهذا المعنى لم تكن سلطوية آل الأسد استثناء، ورغم أن العادة في هذه الأحوال جرت على أن تكون دائرة الحكم والنفوذ موزعة على شخصيات تتلاقى مصالحهم الشخصية والفئوية عند شخص المستبد، الذي يحظى بحصة الأسد لكنه لا يتجرأ على تجاوز معادلة النفوذ القائمة، فإن حافظ الأسد مؤسس النظام السوري الحالي تمكن من تجاوز كل المعادلات المحلية، واستأثر لنفسه بكل النفوذ، وترك الفتات، خاصة في المستوى المادي، لحلقة ضيقة حوله لضرورة تسيير أمور النظام، وحكم الجميع بشبح الأمن، وهو ما لا يمكن أن يفسر عادة بدهاء رجل السلطة الطامح فحسب، بل لا بد له من أن يحظى ببيئة اجتماعية فئوية كاملة الولاء لشخصه، تمكنه من انتقاء رجاله من عمقها، بحيث يمرون في فلاتر سلوكية عديدة يضمن من خلالها أن يحاط بعديمي الضمير عبيد المال والشهوات، فيحركهم المستبد كدمى كيفما شاء.
على هذا النحو أسس الأسد الأب أحد أكثر الأنظمة وحشية وقمعاً في العالم، حتى بات الأخ يخشى من أن يشي به أخوه من أمه وأبيه وهما في بيت واحد.
منذ البداية قدم الأسد الأب نفسه للطائفة العلوية في سورية باعتباره القائد المخلص لها من الفقر والتهميش، ورغم أنها خرّجت عشرات بل مئات المثقفين المعارضين للنظام بشراسة، ظلت الطائفة بصفة غالبة، وفية لمن اعتبرته ولي نعمتها، لا تغير في ولائها ولا تبدل، بل مارس متنفذوهم أسوأ تمييز عرفه المجتمع السوري على الإطلاق، وأفرغت في المجتمع عقد التهميش والفقر والخوف التي كانوا يعيشونها، لدرجة أن الشعب السوري الذي كان على مدى عقود يئن تحت وطأة القمع السياسي ونهب المال العام وانتشار الفساد، لم تحركه هذه المعضلات، إلا أن الطائفية الفجة التي مارسها النظام من أعلى الهرم حتى أدناه، والتمييز ضد الأغلبية العربية السنية بوجه خاص، وبقية الطوائف والأقليات بوجه عام، فجرت ثورته بوصفها أبرز بواعثها الرئيسية.
ولوحظ ذلك في تقييم حالة المدن والقرى والأحياء التي انطلقت منها الثورة في عموم المحافظات السورية، بعد اشتعال الفتيل في درعا، فالأحياء الحمصية واللاذقانية والدمشقية التي كان لها احتكاك وجوار مع تجمعات سكنية من العلويين، كانت أول من استجاب لنداء مظاهرات الأموي ودرعا، ورغم هذا الشعور البارز بالاضطهاد الطائفي طغت على المظاهرات التي خرجت في هذه الأحياء ولا سيما في الشهور الأولى شعارات السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية، ونادت جميع تلك المظاهرات منذ الأسبوع الأول "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد".
عندما خرجت من سجون الأسد في 4 يونيو/حزيران 2011، وكان قد مضى على اندلاع الثورة شهران ونصف الشهر تقريباً، راجعت فرع فلسطين الذي كان قد أحالني إلى محكمة أمن الدولة وظل الفرع المسؤول عني، بقصد استخراج إذن سفر، واستغرقت المراجعة ساعات طويلة، عرضت خلالها على المحقق "هواري" الذي كان قد تولى قضيتي عندما حطت بي رحال السجن في هذا المكان المقتطع من جهنم، فطالعني بابتسامة الممتعض، وصارحني بأنه لو كان مكان رئيسه بشار الأسد لما أطلق سراحي ولا سراح أحد من الذين شملهم العفو آنذاك، وتابع بالقول: "أنا لست علوياً ولا طائفياً، ولكنني عاشرت العلويين وهم ليسوا كما يشاع عنهم، وفي المقابل ها هم السنة قد جُنوا وخرجوا إلى الشوارع يريدون هدم الدولة وتخريب مؤسساتها، ولا أحد يعرف ماذا يريدون"!
هي قصة واقعية تشير برمزية شديدة إلى عمق المأزق وحجم المتاهة التي جر حكم آل الأسد بلادنا إليها.