15 نوفمبر 2024
سوريو المنفى والخوف من الحياة
بدت البلاد الأوروبية في واحدةٍ من مراحل المأساة السورية المستمرة الجنّة الحلم التي لم يترك السوريون طريقة للوصول إليها إلا وسلكوها، عبر الحصول على تأشيرات نظامية، أو عبر الهجرة غير الشرعية في مراكب التهريب البحرية التي أودت بآلافٍ منهم. هجرة ولجوء وبحث عن حياة آمنة ومستقبل أفضل، هذا ما حلم به السوريون، بعد أن ذهبت البلاد إلى حيث لا يدري أحد، إلى المجهول الذي قد يكون مشابها للجحيم، عدا عن أن سوريين كثيرين لاجئين إلى أوروبا فقدوا كل ما يربطهم بذلك الوطن المسمى سورية، الوطن القاتل والكاره أبناءه.
ليس من حقِّ أحدٍ إذا لوم السوريين على بحثهم عن الأمان. ما من خياراتٍ أخرى كانت متاحةً لهم، حين أغلق العرب الأشقاء كل منافذ الأمان أمامهم، حين شرّدت الأنظمة والحكام العرب العائلات السورية، بسبب سياسة منع السوريين من الحصول على تأشيرات الدخول، والتضييق على من لجأوا إلى هذه الدول في موضوع الإقامات والعمل، وإلى ما هنالك. كانت أوروبا، بقوانينها المستمدّة من شرعة حقوق الإنسان، الحل الوحيد أمام السوريين الفاقدين كل شيء. لهذا، ربما لم يفكّروا كثيرا بمخاطر الهجرة غير الشرعية والهرب، فلم يبق لهم شيء ليخسروه. ولهذا أيضا ربما لم يخطر لهم كيف سيكون شكل حياتهم في بلاد اللجوء، فالأمان الجسدي، حيث لا خوف من اعتقالٍ أو قتلٍ تحت التعذيب، ولا خوف من حصارٍ وتجويع، ولا خوف من براميل قاتلة تلقى فوق رؤوسهم، ولا خوف من قذائف عشوائية، أو صواريخ عدوة وصديقة، ولا خوف من متفجّرات.
الأمان الجسدي والنجاة من ذلك الجحيم كان الهدف الأول. لم يكن ليخطر لأحدهم السؤال عن الأمان النفسي والطمأنينة. سؤال كهذا ليس أكثر من ترفٍ باهظٍ في حالة السوريين. سؤال ليس هذا وقته ولا أوانه، غير أنه أظهر نفسه بنفسِه مع وصول دفعات اللاجئين إلى الدول الأوروبية. صدمة الاختلاف بين الثقافتين تركت أثرا بالغا لدى سوريين كثيرين، جعلت من بعضهم ينحاز نحو هويته الأولى، رافضا الاندماج في المجتمع الجديد ذي الثقافة المختلفة. انعكس ذلك على وضع عائلات كثيرة، كانت العادات والتقاليد في الوطن تحقّق لها الاستقرار الذي انهار مع الوصول إلى مجتمعٍ بعادات وتقاليد مغايرة صادمة أحيانا. فكرة الاندماج بحد ذاتها شكلت صدمةً كبرى، حيث لا يسهل لكثيرين تعلم لغةٍ جديدة كليا، وحيث لا يمكن العمل من دون تعلم اللغة، وحيث فرص العمل قليلة جدا، حتى للأوروبيين، فكيف بلاجئين لا يتقنون لغة المجتمع الجديد الذي لا يعترف بمهاراتهم القديمة. صدمة تلو الأخرى، بينها غلاء المعيشة الذي يجعل السوري مضطرا للعيش بأقل من كفاف يومه، حيث لا تكفي المساعدات المقدّمة لدفع إيجارات الشقق الصغيرة في العواصم الأوروبية، باريس واستوكهولم وكوبنهاغن وبرلين مثلا. حيث أيضا ما يتركه انتظار المساعدات الشهرية والبحث المتواصل عن عملٍ من دون جدوى، من إحساس بالنقص والمهانة لدى كثيرين، حيث تنامي العنصرية تجاه اللاجئين، خصوصا السوريين، بعد تصنيف سورية بلد الإرهاب الأول، حيث الشعور باليأس بعد صدور قوانين كثيرة جديدة، تحدّ من قبول طلبات اللجوء أو منح إقامات طويلة، أو رفض لمّ شمل العائلات المشرّدة في كل مكان، وتعذّر العودة إلى الوطن لأسباب عديدة.
زاد ذلك كله من مساحة الفراغ في أرواح السوريين. صار الخوف مختلفا، لم يعد خوفا على الحياة، صار خوفا من الحياة نفسها، خصوصا لدى الفئة العمرية الشابة التي ترى سنوات حياتها تمضي من دون أن تحقق أي شيء، بعد أن كان أمل التغيير كافيا وحده للعيش بامتلاء. هذا الفراغ الروحي اليائس، والبائس في الوقت نفسه، حوّل غالبية السوريين في أوروبا إلى مصابين بالاكتئاب والعصاب والبارانويا، ما جعل حالات الانتحار أحداثا شبه يومية، الانتحار والتخلص من الأبناء، والهرب من العائلات، واللجوء إلى تعاطي الحشيش والمخدرات، ليس حال السوريين في بلاد العرب والدول المجاورة أفضل بكثير. الفرق فقط أن هؤلاء يعيشون في مجتمعاتٍ يعرفون لغتها، ولا يحتاجون خبراتٍ في آلية الاندماج. وسط هذا الخراب المرئي، هل ثمّة أملٌ ما يُنقذ من تبقّوا من السوريين؟
ليس من حقِّ أحدٍ إذا لوم السوريين على بحثهم عن الأمان. ما من خياراتٍ أخرى كانت متاحةً لهم، حين أغلق العرب الأشقاء كل منافذ الأمان أمامهم، حين شرّدت الأنظمة والحكام العرب العائلات السورية، بسبب سياسة منع السوريين من الحصول على تأشيرات الدخول، والتضييق على من لجأوا إلى هذه الدول في موضوع الإقامات والعمل، وإلى ما هنالك. كانت أوروبا، بقوانينها المستمدّة من شرعة حقوق الإنسان، الحل الوحيد أمام السوريين الفاقدين كل شيء. لهذا، ربما لم يفكّروا كثيرا بمخاطر الهجرة غير الشرعية والهرب، فلم يبق لهم شيء ليخسروه. ولهذا أيضا ربما لم يخطر لهم كيف سيكون شكل حياتهم في بلاد اللجوء، فالأمان الجسدي، حيث لا خوف من اعتقالٍ أو قتلٍ تحت التعذيب، ولا خوف من حصارٍ وتجويع، ولا خوف من براميل قاتلة تلقى فوق رؤوسهم، ولا خوف من قذائف عشوائية، أو صواريخ عدوة وصديقة، ولا خوف من متفجّرات.
الأمان الجسدي والنجاة من ذلك الجحيم كان الهدف الأول. لم يكن ليخطر لأحدهم السؤال عن الأمان النفسي والطمأنينة. سؤال كهذا ليس أكثر من ترفٍ باهظٍ في حالة السوريين. سؤال ليس هذا وقته ولا أوانه، غير أنه أظهر نفسه بنفسِه مع وصول دفعات اللاجئين إلى الدول الأوروبية. صدمة الاختلاف بين الثقافتين تركت أثرا بالغا لدى سوريين كثيرين، جعلت من بعضهم ينحاز نحو هويته الأولى، رافضا الاندماج في المجتمع الجديد ذي الثقافة المختلفة. انعكس ذلك على وضع عائلات كثيرة، كانت العادات والتقاليد في الوطن تحقّق لها الاستقرار الذي انهار مع الوصول إلى مجتمعٍ بعادات وتقاليد مغايرة صادمة أحيانا. فكرة الاندماج بحد ذاتها شكلت صدمةً كبرى، حيث لا يسهل لكثيرين تعلم لغةٍ جديدة كليا، وحيث لا يمكن العمل من دون تعلم اللغة، وحيث فرص العمل قليلة جدا، حتى للأوروبيين، فكيف بلاجئين لا يتقنون لغة المجتمع الجديد الذي لا يعترف بمهاراتهم القديمة. صدمة تلو الأخرى، بينها غلاء المعيشة الذي يجعل السوري مضطرا للعيش بأقل من كفاف يومه، حيث لا تكفي المساعدات المقدّمة لدفع إيجارات الشقق الصغيرة في العواصم الأوروبية، باريس واستوكهولم وكوبنهاغن وبرلين مثلا. حيث أيضا ما يتركه انتظار المساعدات الشهرية والبحث المتواصل عن عملٍ من دون جدوى، من إحساس بالنقص والمهانة لدى كثيرين، حيث تنامي العنصرية تجاه اللاجئين، خصوصا السوريين، بعد تصنيف سورية بلد الإرهاب الأول، حيث الشعور باليأس بعد صدور قوانين كثيرة جديدة، تحدّ من قبول طلبات اللجوء أو منح إقامات طويلة، أو رفض لمّ شمل العائلات المشرّدة في كل مكان، وتعذّر العودة إلى الوطن لأسباب عديدة.
زاد ذلك كله من مساحة الفراغ في أرواح السوريين. صار الخوف مختلفا، لم يعد خوفا على الحياة، صار خوفا من الحياة نفسها، خصوصا لدى الفئة العمرية الشابة التي ترى سنوات حياتها تمضي من دون أن تحقق أي شيء، بعد أن كان أمل التغيير كافيا وحده للعيش بامتلاء. هذا الفراغ الروحي اليائس، والبائس في الوقت نفسه، حوّل غالبية السوريين في أوروبا إلى مصابين بالاكتئاب والعصاب والبارانويا، ما جعل حالات الانتحار أحداثا شبه يومية، الانتحار والتخلص من الأبناء، والهرب من العائلات، واللجوء إلى تعاطي الحشيش والمخدرات، ليس حال السوريين في بلاد العرب والدول المجاورة أفضل بكثير. الفرق فقط أن هؤلاء يعيشون في مجتمعاتٍ يعرفون لغتها، ولا يحتاجون خبراتٍ في آلية الاندماج. وسط هذا الخراب المرئي، هل ثمّة أملٌ ما يُنقذ من تبقّوا من السوريين؟