19 أكتوبر 2019
سياسة "تكسير المجاديف"
قد يكون التشكيك بنيّات الآخرين وقدراتهم صفة مكتسبة في المجتمع العربي ككل، كوّنتها عوامل عدة تتعلق ببنية الفكر المجتمعي السائد القائم على النزاعات الفردية والقبلية والطائفية، والتي رسّختها الأنظمة القمعية القائمة على سياسة الإحباط وقتل الثقة بالنفس قبل الآخرين. وقد اعتدنا على تبعات ذلك الفكر من "تكسير المجاديف"، والذي يواجهه كل من يحاول أن يقوم بعمل مميّز، أو من يتأخر، لسببٍ ما، عن القيام بما عليه القيام به.
وبما أن الثورة السورية كانت كشفاً حقيقياً لكل زائف أو مختفٍ تحت قشور الأقنعة الاجتماعية المصنوعة على مر عقود، وتعريةً لكل العقد والنواقص، فإن هذه الصفة المكتسبة ظهرت على السطح أيضاً، وبشكل وقح، في أكثر مراحل الثورة، مطعّمة هذه المرة بلغة التخوين المسبق.
في بدايات الثورة، تأخرت حلب أشهراً عن اللحاق بركبها، فكان اتهام المدينة العريقة بالتكاسل والتخاذل أمراً سهلاً لدى كثيرين، حيث امتلأت، حينها، صفحات "فيسبوك" ووسائل التواصل الاجتماعي، وحتى لافتات الثوار في بعض المناطق، بالعبارات المخوّنة للمدينة، والتي تلوم سكان حلب، وتحثهم على إطلاق حراكهم بموازاة حراك بقية المحافظات. كان بعض تلك العبارات نابعاً من نيّة صافية، تستنجد بالأخ الكبير لمناصرة أخيه، لكن بعضها الآخر، أو لنقل معظمها، كان يستخدم لغة الاستهزاء بقدرة المدينة على مواجهة نظام الأسد، وبوطنية شبابها وأهلها وانتمائهم السوري.
لم يأخذ الأمر طويلاً، لتلتحق حلب بأخواتها من المدن السورية، وتشارك، أيّما مشاركة، في فعاليات الثورة. وكان رد النظام عليها قاسياً جداً، وربما أكثر شراسة من رده على بقية المدن، وذلك لمكانة حلب الاستراتيجية وأهميتها عاصمة اقتصادية وتاريخية لسورية.
أخرس دخول حلب على خط الثورة المستهزئين الذين بات معظمهم يترحّم على ما اندثر من المدينة، ويتباكى على أهلها وتاريخها وقوتها الضائعة.
يتكرر السيناريو نفسه اليوم مع السويداء، وإن بشكل مختلف. فقد حمل الثوار أيضاًلافتات تستحث أهالي المحافظة ذات الأغلبية الدرزية، على المشاركة بالثورة، وذلك للأهمية المعنوية لمشاركتهم، والتي قد تزيح العباءة السنيّة التي أصر النظام على إلباسها للحراك الشعبي. وقد شهدت السويداء مظاهرات تقصّد الإعلام الموجّه، سواء إعلام النظام أو إعلام المعارضة المحكوم بالجهات الداعمة، تقصّد إهمالها، وعدم تسليط الضوء الكافي عليها.
ليس هنا مجال الخوض بأسباب حياد السويداء، لكن الملفت للنظر الحملة الشرسة التي تعرّض لها الحراك، أخيراً، فيها، وقد أخذت، في مواقع كثيرة، شكل التخوين التام لسكان المحافظة، وهو ما وصل إلى مستوى التكفير الديني والوطني بالمطلق. فما الذي يريده هؤلاء المخوّنون الذين يطلقون على أنفسهم لقب "الثوار"؟
كان هؤلاء أنفسهم، على مدى السنوات الماضية، يطالبون السويداء بأن تقوم بما تقوم به الآن، ويضعون اللوم على الأقليات بعدم انتصار الثورة حتى اللحظة، وبتمكين النظام من إضفاء الصفة الطائفية السنيّة، والتي كانوا يرفضونها، على الثورة. لكنهم اليوم، وكأنما أصبحوا خائفين من أن تُزال تلك الصفة، ويفقدون بالتالي شرف انتمائهم "لسنيّة الثورة" إذا ما قامت السويداء أو غيرها من مناطق الأقليات، يطلقون رصاص آرائهم القاتلة باتجاه خاطئ، ليصيب فرصةً قد تكون الأخيرة لقلب الطاولة على نظام الأسد ومخططات داعميه، عن طريق حراك الأقليات وامتزاجهم بالثورة.
هي العقلية المغلقة نفسها التي حكمت مسبقاً على حلب، كبرى المدن السورية، ما زالت تحكم على السويداء، وتسخر من أي حراك يحصل فيها، وتقلل من قيمته إلى درجة الإحباط. وربما هو الخطاب نفسه الذي لعب، وما زال يلعب، الدور الأسوأ المؤدي إلى تبني الأقليات لموقف الحياد السلبي.
يبقى السؤال برسم من يدّعون الانتماء إلى "ثورة" حقيقية، قامت للمطالبة بالكرامة و"الحرية" والمواطنة، على أسس ديمقراطية تحترم الاختلاف، ما الذي تريدونه بالتحديد؟ وما الذي تعتقدون أنكم تفعلونه بمواقفكم وتصريحاتكم تلك؟ والأهم، بماذا بالضبط تعرّفون أنفسكم، ثواراً سوريين أم ثواراً سنّة؟