كثيرة هي العائلات التي تعمد إلى تزويج بناتها وهن قاصرات. هي تريد سترهن، من دون أن تكترث لحقوقهن. المهم بالنسبة إليها عدم خرق العادات والتقاليد وحمايتهن من الوقوع في الخطأ، ولو كان ذلك على حسابهن ولو أدى إلى تدمير حياتهن.
هذا العام، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) تقريراً أشارت فيه إلى أن أكثر من 700 مليون امرأة على قيد الحياة اليوم، قد تزوجن قبل بلوغهن 18 عاماً. في لبنان، لا أرقام حديثة لتوثيق أعداد اللواتي تزوجن وهن قاصرات. عام 2009، قالت اليونيسف إن 6 في المائة من النساء تزوجن قبل بلوغ سن الـ18.
أخيراً، أطلقت مؤسسة "أبعاد" المعنية بالدفاع عن حقوق المرأة، بالتعاون مع اليونيسف وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، فيلم رسوم متحركة قصيراً حمل عنوان "الزواج مش (ليس) لعبة". توجه الفيلم إلى مختلف الفئات العمرية، واستند إلى شهادات حية كانت قد جمعتها المنظمة من الفتيات والأهل، بهدف تحديد الإشكاليات الأساسية والرسائل التي يجب إيصالها إلى المجتمع. على أن يتم استخدام الفيلم في المدارس ومراكز التنمية الاجتماعية والرعاية الصحية الأولية وغيرها، للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأطفال والمراهقين.
يحكي الفيلم قصة حياة إحدى الفتيات القاصرات قبل الزواج وبعده. كانت تذهب إلى المدرسة برفقة أصدقائها، تلعب وتمرح معهم. بعد زواجها من رجل يكبرها بسنوات، صارت حزينة، وقد حرمت من التعليم ورؤية أصدقائها، واستبدلت ألعابها بأدوات التنظيف والطهي. لا تقتصر المعاناة هنا. هذه الطفلة تصبح بدورها أماً لطفل، عليها تحمّل مسؤوليته والاهتمام به. في هذا الإطار، يطرح الفيلم مجموعة من الأسئلة، مبيناً النتائج الإيجابية لمنع زواج الأطفال.
مريم وأسمى
حرمت مريم (اسم مستعار) من التعليم. هكذا صادر والداها حقها. كما لجأ والدها إلى تعنيفها وحبسها في المنزل. لا تستطيع رؤية العالم الخارجي إلا من خلال نافذتها الصغيرة في غرفة نومها. اختارت الهرب من العنف اليومي الذي كانت تتعرض له، فتزوجت من شاب عاطل عن العمل، وسكنت مع عائلته. تعترف بأنها أخطأت. فمنذ اليوم الأول لزواجها، كانت تتعرض لعنف نفسي وجسدي. تقول لـ"العربي الجديد": "كان يربكني بكلماته الحاقدة. أخبرني أنني لست امرأة. ينعتني بالطفلة، وكأن هذا عيب".
تتابع مريم: "حاولت أن أتصرف كامرأة، لكنني لم أستطع. كنت أريد أن ألعب في الهواء الطلق. أصعب اللحظات التي عشتها هي حين كنت أضطر لأن أجلس مع أولاد أشقائه لخدمتهم. أحياناً، كنت ألعب معهم". مع الوقت، لم تعد تحتمل ضربه لها، فقررت العودة إلى بيت أهلها، إلا أن والدها استقبلها بالضرب أيضاً. تذكر أنها تألمت كثيراً في ذلك اليوم. بعد ساعات، اتخذت قرارها بالانتحار، إلا أن أبناء الحي سارعوا إلى الاتصال بالشرطة، وتم نقلها إلى "الدار الآمن للنساء والفتيات" التي تُعنى بضحايا الزواج المبكر بالتعاون مع القضاء. اليوم باتت مريم تحب نفسها. عادت تلبس اللون الزهري الذي لطالما أحبته. تمشي بثقة. وتنتظر التوقيع على ورقة طلاقها لتبدأ حياة جديدة.
لأسمى أيضا معاناتها. نشأت هذه الفتاة في دار للأيتام. كان المشرفون على الاعتناء بها لا يتوانون عن تذكيرها بأنها وجدت في مكبّ للنفايات. هي أيضا كانت تتعرض للعنف من قبلهم. حين صارت في الرابعة عشرة من عمرها، أجبرها القائمون على الدار على الزواج من شاب في الثامنة والعشرين من عمره. بعد سنة، أنجبت طفلة رأت فيها بداية لحياة جديدة. أمّلت أن تتحسن معاملة زوجها لها. إلا أن الأخير رفض إبقاءها في منزله، وحرمها من طفلتها ورماها في الشارع. لم يكن من خيار أمامها إلا اللجوء إلى الدار مجدداً. لكنها لم تستقبلها كونها متزوجة، ولا يجب أن تتواجد فيها مع فتيات ما زلن عازبات. اضطرت إلى النوم في الشارع. هنا بدأت "الكارثة"، كما تقول. تعرفت إلى امرأة هددتها بتقديمها إلى الشرطة إذا لم تعمل في مجال الدعارة. في إحدى الليالي، اعتقلت الشرطة مجموعة من الفتيات بتهمة الدعارة، وكانت أسمى من بينهن. لكن القاضي، وبعد دراسة قضيتها، قرر تحويلها إلى سجن الأحداث بسبب صغر سنها، قبل أن يتم نقلها إلى "الدار الآمن للنساء والفتيات". لم تصدق أن الحياة يمكن أن تضحك لها من جديد. بدأت تتعافى تدريجياً من الماضي، وتتخلص من إحساسها بالذنب.
الدار الآمن
تجدر الإشارة إلى أن الدار الآمن للنساء والفتيات، تنظم بالتعاون مع مكتب حماية الأحداث، مجموعة من الأنشطة بهدف تقديم الدعم النفسي والمعنوي لضحايا الزواج المبكر، أو اللواتي تعرضن لعنف من قبل الزوج أو أحد الأقرباء. وتسعى إلى التواصل مع مكتب الأحداث والقضاء في حال تعرضت إحدى الفتيات لملاحقة أو تهديد من قبل أهلها، فيتم الحصول على قرار قضائي لحمايتها.
في السياق، تقول مسؤولة التنسيق والتواصل في مؤسسة "أبعاد"، لمى نجار، إن الدار تستقبل الفتيات لمدة أربعة أشهر، وتعمل على تعزيز ثقة الفتاة بنفسها لمواجهة الصعوبات. ويمكن تمديد فترة مكوثها بقرار قضائي في حال عبرت عن حاجتها إلينا، أو أنها ما زالت عاجزة عن الخروج من أزمتها. تضيف: "بعدها، نحوّل الفتيات إلى جمعيات أخرى، تتولى بدورها إكمال ما بدأناه من عمل اجتماعي، بمساعدة متخصصين وأطباء نفسيين".
تتابع نجار: "غالباً ما تكون مشاكل الفتيات كثيرة. فغالبية المتزوجات اللواتي يطالبن بالطلاق، على غرار مريم، يجدن صعوبة في تحقيق ذلك؛ لأنه لم يتم تسجيل عقد الزواج في المحكمة". تشدد على أهمية "توفر صفات محددة لدى المرشدة الاجتماعية التي تساعد الفتيات للخروج من الحالة الصعبة التي يعشنها". تقول: "بداية، عليها أن تعترف بأن هذه الفتاة ضحية، وبالتالي يجب عدم التعامل معها بوصفها قد أخطأت. كذلك، يجب أن تتحلى بالصبر، وتصغي إليها، وتحترم مشاعرها وتتفهمها"، لافتة إلى أنه "خلال جلسات الاستماع، نلاحظ أن الفتيات يشعرن بالضياع. يضحكن، ثم يبكين، وقد يضربن أنفسهن في بعض الأحيان". تضيف: "ما عانينه أكبر منهن".
إقدام الأهل على تزويج بناتهم هو انتهاك لحقوقهن. في هذا الإطار، تأمل مؤسسة "أبعاد" أن يتمكن هذا الفيلم من المساعدة في مواجهة العادات والتقاليد، التي تسلب الفتاة حقها في التعلم والاختيار، وبالتالي حريتها.