رحل الدكتور صادر يونس عن دنيانا، غادرنا إلى نابَيه مسقط رأسه بعدما ناء بعمره في بيروت، ناء بسنوات حياته وما كابده خلالها، وبمشكلاتنا التي لا تعالج فتصبح معضلات غير قابلة للعلاج. حمل سنواته وأغمض عينيه تاركاً وراءه حملاً ثقيلاً لا يجد من يحمله. عاش صادر يونس ومات وفي قلبه غصة على المآلات التي تسير عليها البلاد. لم يكن هذا الرجل الرقيق والمبدع أسير ما عُرف عنه قائداً نقابياً فذاً أَوْلى الجامعة اللبنانية أساتذة وطلاباً وإدارة ومباني ومكتبات جلّ عمره. كان أكبر وأوسع من الصرح الأكاديمي الذي طالما ناضل من أجل بلوغه، واعتبره معادلاً لمصير لبنان. كان وهو الآتي من السوربون في تلك المرحلة المبكرة يحمل معه كل مخزون المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع. وهي المدرسة التي جادت علينا في الستينيات بالأب لوبريه وتقرير بعثة أرفد الشهير في لبنان والتي أنتجت المدرسة الشهابية التي تعمل المعاول الطائفية منذ عقود على هدم ما أنشأته من مؤسسات دولة. وصادر يونس كان أكاديمياً وبامتياز، لكنه كان قبلاً وبعداً ودائماً ديموقراطياً ومناضلاً صلباً لا تلين له قناة، عبر التظاهرات الوطنية والقومية ومن أجل التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية.
تحار وأنت في هذه اللحظة من أي الأبواب تدخل الى عالم صادر يونس. هل تدخل إليه من النضال مع الكبار المؤسسين للجامعة اللبنانية؟ أم من باب البحث العلمي السوسيولوجي الذي أرسى دعائمه وعلّم وتعلّم في صفوفه أجيال وأجيال من الطلاب والباحثين؟ أم من باب الصداقة والزمالة؟ أم من مدخل العمل النقابي وما زالت التجربة التي خاض غمارها ماثلة أمامنا إنجازات يعرفها الأساتذة والطلاب وإن كان الكثير منها قد جرى محوه ووأده في زمن الطوائفية وتوزيع المقاعد محاصصة على القوى السياسية؟
وصادر يونس جامعةٌ أو مدرسةٌ تعلّم منها الكثير، وما تزال تقدم دروسها لأجيال من الأكاديميين والطلاب على المستوى العلمي والنقابي. عمل نقابي كما صاغه صادر ومعه جيل الرواد لحمته وسُداه الاستقلالية عن القوى السياسية وحساباتها الحزبية – الطوائفية، مدافعاً عن ضرورة أن يكون لهذا الوطن مؤسسة للتعليم العالي تليق به، مؤسسة تتماشى مع طموحات اللبنانيين في بناء دولة ووطن وبلاد تتوافر فيها فرص الارتقاء الاجتماعي لعموم أبنائه وخصوصاً لأبناء الفقراء ومتوسطي الحال. أن يكون لهؤلاء الحق في ارتياد جامعة وطنية حقيقية وفعلية كي لا يبقى التعليم حكراً على مؤسسات التعليم الخاص التي تترك أبوابها مقفلة إلا لأبناء من يملكون المال. كان صادر يونس يحلم أن يكون لهذا الوطن مؤسسته العلمية وشخصيتها الوطنية الحقيقية الحاضنة للتنوع، وليس مجرد نسخة منقولة عن المدرستين الأميركية والفرنسية.
لم تكن الجامعة اللبنانية بالنسبة له مجرد كليات إضافية أو أبنية أو صخب طلاب وأساتذة إذ رأى فيها المستقبل الحقيقي يعيش فيه أبناؤه تحت مظلة دولة القانون والعدالة الاجتماعية، حيث الحرية والمساواة وإمكانية التقدم من دون إذن أو رضى الإقطاع السياسي ومحاسبيه وورثته.
ولم يكن صادر يونس القائد الفرد الذي يضرب بعصاه البحر فينشق، فإذا نحن نجد أنفسنا أمام جامعة وتعليم عالٍ مكتمل المواصفات والمقاييس له أدواره العلمية والبحثية والمجتمعية. دوماً هناك بدايات وقد واكب صادر بدايات هذه الطموحات والأحلام واشتغل على بلورتها عند عودته للتدريس في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة، وهو من الكليات التي لعبت دورها في صقل الوعي الوطني والاجتماعي والنقابي، ليس على صعيد الأساتذة والطلاب، بل على مستوى البلد ونخبه الثقافية.
لكن الدور الذي لعبه صادر كان أخطر من مجرد أستاذ يقف أمام طلابه ليفكك أمامهم بنية هذا المجتمع، وكيف تنتصب السدود ومعها يتعذّر على الأجيال الصاعدة أن تخرق جدران النظام السميكة، جدران الإسمنت المسلح طائفياً وطبقياً. لم يكن صادر يونس منظِّراً يجلس وأمامه ووراءه رفوف الكتب والمجلدات. ليس هذا هو صادر يونس مع باعه الطويل نظرياً في مجال اختصاصه. كان صادر يونس يعبّر عن ذلك الطموح إلى صياغة وطنٍ يختلف عن القائم على المحسوبية والاستزلام والرشاوى من كل نوع. وكان مدخله إلى ذلك كله حركة نقابية لأساتذة الجامعة تستطيع أن تستند الى كتلة طالبية ومجتمعية تنزل الى الشارع فتقض مضاجع أهل النظام. كتلة تحمل هموم بناء مستقبل لأبناء هذا الوطن وتجتهد لتجد له وظيفةً في الداخل وعلى مستوى المنطقة مختلفةً عن عقد الصفقات والسمسرة.
وخاض صادر في غمار التجربة التي أثمرت في المحصلة الجامعة اللبنانية المترامية الأطراف التي تعمل معاول الطوائف الآن والقوى المذهبية إلى حرفها عن مسارها وتحويلها إلى ملاحق لها تلتحق بأمرائها وقواهم الأهلية بعيداً عن الأكاديمية والدور البحثي والوطني الذي يفترض بمؤسسة للتعليم العالي في وطن وبلد ما زال ممزقاً من ألفه الى يائه، ناهيك بتحديات المنطقة وما تفرضه من وعي ورسالة.
صادر من القلائل الذين كانوا دوماً يمسكون بأياديهم البوصلة ويعرفون المكان الذي تؤشر إليه. لذلك كان يقف موقف الناقد لقواها، لا تغرّه الشعارات ولا الخطب الطنانة. هو يعرف تماماً ما خلفهما من مضمرات. وقف صادر يونس ضد منطق الحرب الأهلية ومساراتها دون أن يعني ذلك الحياد وعدم الانحياز للوطن، وفي معمعة الغزو الإسرائيلي كان كما كثيرين ينحازون للقضية الفلسطينية وقضية الوطن ووحدة ترابه ومؤسساته، وما إن يزول الاحتلال عن أجزاء منه حتى يشرع صادر في العمل على إعادة وحدة الجامعة كواحدة من أبرز مؤسسات الوطن. وهنا وكما هي عادته يستعيد تجربة رابطة الأساتذة المتفرغين ووصل ما انقطع بين الأساتذة والفروع، مؤكداً على قدرة هذا الشعب على تجاوز ما خلفته الحروب من جراحات وتمزق.
والكلام عن صادر يونس لا يجف... لأننا وسوانا ندين لعلمه وتجربته. صادر يونس وداعاً... وشكراً لعطائك المتواصل.
(باحث وأستاذ جامعي)