قدّم العراق، خاصة خلال السنوات العشر الاخيرة، الى عالم الميديا، بمختلف أشكاله، عدداً غير قليل من الكفاءات الصحافية والاعلامية، سواء في داخل العراق أو خارجه. إلا أن الصحيح أيضاً، أن عدداً غير قليل منهم يخرق أخلاقيات المهنة بانتظام.
ويزخر واقع الإعلام العراقي بكثير من المشاكل والمفارقات المختلفة، في وقت يعمل الصحافيون العراقيون في ظروف خطرة وقاسية، ويقدمون مئات الضحايا في غضون العقد الأخير، يلاحظ أن كثيراً من السلبيات رافقت العمل الصحافي، منها الانحياز وعدم الكفاءة وتلقي المكافآت النقدية من قبل كثير من المسؤولين الحكوميين.
نقيب الصحافيين العراقيين، مؤيد اللامي، قال لـ"العربي الجديد"، إن "عدد الصحافيين المسجلين في النقابة منذ 1959، تاريخ تأسيسها، يبلغ نحو 15 ألف صحافي، من ضمنهم الأموات والخارجون عن المهنة، والعدد الموجود اليوم نحو 10 آلاف صحافي". ومن الواضح، فإن العدد الكبير للصحافيين العراقيين لا يعني بأيّ حال أنهم على مستوى واحد من الاداء والشعور بالمسؤولية الاخلاقية والمهنية.
ويتهم كثيرون نقابة الصحافيين لمنحها كثيراً من العضويات استناداً الى شروط غير مهنية، تدخل فيها الوساطات والمحاباة في أحيان كثيرة، وذلك ينعكس سلباً بطريقة أو أخرى على الاداء الصحافي بشكل عام، الامر الذي يفرز الكثير من السلوكيات البعيدة عن روح المهنة وشروطها. ومن ضمن تلك السلوكيات تقبّل عدد غير قليل من الصحافيين الهبات والعطايا التي تمنحها الجهات الرسمية والحكومية.
مراسل صحيفة "نيويورك تايمز"، رود نوردلاند، وضع في حزيران/ يونيو الماضي، إصبعه على جرح الهبات الحكومية التي يتلقاها بعض الصحافيين العراقيين منتقداً، عبر تغريدة في تويتر، ذلك السلوك، إلا أن ما قاله الصحافي رود يعرفه الجميع، وربما يمارسه بعضٌ ممَّن أغضبتهم التغريدة.
فالمعروف في الوسط الصحافي العراقي، على نطاق واسع، أن التغطيات التي يقوم بها الصحافيون، سواء لنشاطات الوزارات أو المؤتمرات الصحافية أو العمليات العسكرية، غالباً ما تنتهي بمكافأة مالية تقدم الى الكادر الصحافي.
وبعيداً عن "جرح الكرامة الصحافية" الذي سبّبته التغريدة التي اعتذر عنها صاحبها لاحقاً، يمكن القول: إن سياق "الجكّة" (من الشيك)، وهي تعبير شائع داخل الاوساط الصحافية ويُقصد به المبلغ المدفوع من الجهات الرسمية الى الكادر الصحافي، سياق شائع ولا يمكن نكرانه.
لكن التعميم مبالغة غير موفّقة بكل تأكيد. والاقرب إلى الدقة أن نسبة عالية من الصحافيين يتقبّلون مبدأ العطايا الممنوحة.
العسكريون يدفعون بانتظام
الصحافية سؤدد الصالحي، مراسلة "نيويورك تايمز" في بغداد وزميلة رود، قالت لـ"العربي الجديد": لا أتّفق مع ما قاله زميلي رود، لأنه ذو طابع استفزازي. غير أنها تستغرب الضجة التي أثيرت حول الموضوع من بعض الصحافيين العراقيين، وترى أن "رشوة الصحافيين من المسؤولين قائمة على قدم وساق"، وترى أن من الواجب التركيز على "الإهانة التي يتعرّض لها الصحافي الذي يتلقى المال، وليس على الصحافي الذي وصف الإهانة". وتعتقد الصالحي أن المؤسسات الصحافية مقصّرة تجاه موظفيها لجهة "عدم إعطائهم مرتبات محترمة وعدم مراقبة سلوكهم بصرامة".
مراسل صحافي في قناة تلفزيونية عراقية، فضّل عدم ذكر اسمه، قال لـ"العربي الجديد"، إن "بعض المحسوبين على الصحافة أذلّاء جداً، وإن 95 في المئة من الصحافيين يأخذون المبالغ المخصصة لهم من المسؤولين الحكوميين"، وأكد أن المبالغ النقدية تراوح بين 100- 150 ألف دينار عراقي (حوالي 100 دولار أميركي)، ويشدد على أن القادة والمسؤولين العسكريين يدفعون بانتظام للصحافيين الذين يغطّون عملياتهم العسكرية لـ"تلميع" أنفسهم وما يقومون به أمام رؤسائهم. ويؤكد أن مدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة، فاروق الأعرجي، قام ذات مرة بتوزيع ساعات يدوية، واشترط أن يقوم المتسلم بالتوقيع على وصل تسلم، فوقّع معظمهم وتسلم، فيما امتنع بعضهم ولم يتسلم.
إحراج هيئة النزاهة
يروي رئيس "هيئة النزاهة" السابق، القاضي رحيم العكيلي، أن مراسلاً لجريدة محلية طلب مني مقابلة صحافية، فوافقت، وطلبت من مكتبي تحديد موعد له، فجاء في الموعد المحدد وأجرى المقابلة التي تركزت معظمها على هيئة النزاهة، وطريقة وكيفية مكافحتها الفساد. وعند انتهاء المقابلة، طلب مني الصحافي مبلغاً من المال لقاء إجراء المقابلة.
فاجأني الموضوع، يقول القاضي العكيلي، ثم فكرت وقلت لنفسي: يبدو أن هذا الصحافي أخطأ تقدير الموقف، فكيف يطلب من قاضي النزاهة مبلغاً مالياً بهذه الطريقة! ويضيف، قلت له: لا يمكن أن أعطيك أي مبلغ لأن لوائح هيئتنا لا تجيز ذلك.
أخيراً، أضاف القاضي، أخرجتُ 50 ألف دينار عراقي، (نحو 33 دولاراً أميركياً) من جيبي الخاص واعطيتها له تلافياً للإحراج. كلام القاضي يعزّز ما يعرفه كثيرون، من أن عدداً غير قليل من الصحافيين يطالبون الجهات الرسمية بشكل مباشر بالمكافآت المالية.
موسم الحصاد
يعرف العاملون في الحقل الصحافي العراقي أن ثمة مواسم محددة لحصاد الأموال يبرع في استثمارها صحافيون معيّنون، بعضهم ناجح وكثير منهم فاشلون. وأهم مواسم الحصاد تلك، هي أوقات الانتخابات المحلية والعامة، من خلال إجراء لقاءات ومقابلات تلفزيونية مع المرشحين في مقابل مبالغ كبيرة، مستغلين حاجة المرشح للترويج لحملته الانتخابية، وعملهم في فضائيات غير ربحية وتوفر مساحة مجانية للمرشح، أما القنوات الربحية فلا يستطيع العاملون فيها من الصحافيين استغلال ذلك إلا بحدود ضيقة.