غرقت الجزائر في مستنقع العنف والإرهاب، طوال تسعينيات القرن العشرين، مع ما في ذلك من اعتياد على العزلة والتقوقع. لكن، ما إن انقشعت غيمة العنف والخوف وارتفعت أسعار النفط حتى تسابقت الشركات العالمية الكبرى على دخول البلاد.
هذا الوجود الاقتصادي أسس لوجود اجتماعي، بكلّ ما ينتج عنه من احتكاكات إنسانية، بين الأجانب والجزائريين. ويأتي الصينيون في الصدارة في أعدادهم، إذ يشكّلون 45 في المائة من العمالة الأجنبية المعتمدة في الجزائر، وفي قدرتهم على الاندماج والتغلغل في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
اعتمد الجزائريون في الحكم على الوافدين الصينيين، في البداية، على القوالب النمطية من قبيل أنّهم "يفتقدون إلى النظافة"، فكان التوتر مهيمناً على العلاقة بين الطرفين. يقول الشاب رفيق شيهب إنّ الأحاديث في المجالس المختلفة كانت تقتصر على تناول الصينيين، من غير معرفة حقيقية بهم: "بعضهم كان يقول إنّهم يأكلون، عدا عن الحمير والكلاب، الأطفال أيضاً، ما زرع حالة من التوجّس والرفض لوجودهم. لكن، بعدما سمحت الشركات الصينية للسكان بالعمل فيها، اختبروا أمراً مختلفاً تماماً".
يتابع شيهب أنّ الاحتكاك بين الطرفين جعل الجزائريين يدركون الفرق الشاسع في احترام المواعيد وتقديس العمل وتثمين الجودة والكفاءة: "في الوقت الذي يجلس فيه العامل الجزائري ساعةً لتناول الغداء، كان العامل الصيني يأكل بيد ويشتغل بأخرى، ويلتحق بالعمل قبل الدوام بنصف ساعة فيما يأتي الجزائري متأخراً ساعة أو ساعتين".
في هذا الإطار، يتحدّث عبد العليم. ك عمّا يسميه "عبقرية الإنسان الصيني" في إقناع الجزائريين بوجوده: "يمشون في جماعات صغيرة، خارج أوقات العمل، من غير ثرثرة زائدة أو عرقلة للآخرين، ويتأمّلون الأمكنة والوجوه، بما يوحي برغبتهم العميقة في المعرفة، ويحترمون الخصوصيات الدينية للمسلمين، فهم يوقفون الموسيقى عند ارتفاع الأذان، ولا يأكلون في الشارع خلال شهر رمضان".
عام 2009، حدث شجار بين شاب صيني وآخر جزائري، في ضاحية باب الزوار في الجزائر العاصمة، استنجد فيه كلّ واحد منهما ببني جلدته، فكان مشهد الدماء مؤشراً على أنّ هناك فخاخاً اجتماعية كان على سلطات الطرفين أن تتدخل لنزعها، وإلّا ضاعت كلّ فرص التعاون الاقتصادي بينهما. أصدر المقيمون الصينيون بياناً اعتذروا فيه من الجزائريين، وشرعوا في ممارسة استراتيجيات تقارب جديدة، منها تعلم لهجة الجزائريين، ومعرفة موسيقاهم وفنونهم، وتشغيلهم في المحلات التجارية التي يشرفون عليها، وفتح مطاعم صينية.
اقــرأ أيضاً
في شارع حسيبة بن بوعلي، بالجزائر العاصمة، تشرف وافدة صينية على محل متخصص في الأقمشة الصينية، وتشغّل معها ثلاث فتيات جزائريات، وتتواصل معهن ومع الزبائن باللهجة المحلية. تقول: "ما إن مرّت ثلاث سنوات حتى تعلمت اللغة، وأجدها حلوة وخفيفة. كان اهتمامي بها في البداية لدواعٍ تجارية، أمّا اليوم فأنا أهتم بها لدواعٍ إنسانية وثقافية، إذ أرى نفسي، بالإضافة إلى كوني تاجرة، سفيرة لثقافة بلدي".
في مركز "مول بارك" التجاري في قلب مدينة سطيف، شرقاً، يترافق شابان يظهر من ملامحهما أنهما صيني وجزائري. تصدر عبارات باللغة الأمازيغية عن الشاب ذي الملامح الصينية: "تعبت رجلاي من المشي" فيردّ الآخر: "لنتوقف لشرب الشاي إذاً". يقول حسان لـ"العربي الجديد" إنّ صديقه الصيني تيان تعلم منه اللغة الأمازيغية: "وتعلمت منه تغيير القهوة بالشاي، وتصليح أجهزة الكومبيوتر، فهو يشرف على محلّ صيانة". من جهته، يقول تيان إنّ العلاقة بين الجزائريين والصينيين توشك على دخول عقدها الثالث، وهي مدّة خلقت جملة من الظواهر الاجتماعية التي لم تُدرس حتى الآن، منها الزواج المختلط: "أنوي الزواج بجزائرية، حتى لا أكون ملزماً بسياسة تحديد النسل في الصين، ويسرّني أن يكون أخوال أطفالي جزائريين".
قرب "مقبرة العالية" أكبر وأشهر مقبرة في الجزائر العاصمة، والتي خُصّص مربّع منها لدفن الصينيين هناك الحي الصيني. بات الطريق المؤدّي إليه متهالكاً لكثرة المركبات التي تدخله حاملة سلعاً صينية من الميناء، وتخرج حاملة أخرى إلى محلات الجملة الجزائرية. وفيما يغرق الصّينيون خلف حواسيبهم لإنجاز الصفقات، يعمل شبان جزائريون على تحميل وإفراغ الشّحنات. يعلّق عبد الرؤوف: "المهمّ أنني وجدت عملاً شريفاً. لسنا أفضل من أميركا، هناك حيّ صيني فيها ومطعم صيني ومدرسة صينية".
يقول الباحث في علم الاجتماع عمّار بن طوبال إنّ الجزائري، وهو يخرج من عشرية سادها الخوف والموت والانغلاق، كان يفتقد إلى نموذج للنجاح والانخراط في الحياة، فكان الصيني ذلك النموذج الذي يبحث عنه. بدوره يعتبر الكاتب كمال قرور، رئيس "منتدى المواطنة"، أنّ سبب التقارب السريع بين الجزائريين والصينيين يعود في عمقه إلى أنّ الصيني محايد في دينه وشخصيته في نظر الجزائري: "هو ليس الآخر الذي ارتكب مجازر في حقه كجزائري مثل الفرنسيين وكعربي مثل الصهاينة".
اقــرأ أيضاً
هذا الوجود الاقتصادي أسس لوجود اجتماعي، بكلّ ما ينتج عنه من احتكاكات إنسانية، بين الأجانب والجزائريين. ويأتي الصينيون في الصدارة في أعدادهم، إذ يشكّلون 45 في المائة من العمالة الأجنبية المعتمدة في الجزائر، وفي قدرتهم على الاندماج والتغلغل في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
اعتمد الجزائريون في الحكم على الوافدين الصينيين، في البداية، على القوالب النمطية من قبيل أنّهم "يفتقدون إلى النظافة"، فكان التوتر مهيمناً على العلاقة بين الطرفين. يقول الشاب رفيق شيهب إنّ الأحاديث في المجالس المختلفة كانت تقتصر على تناول الصينيين، من غير معرفة حقيقية بهم: "بعضهم كان يقول إنّهم يأكلون، عدا عن الحمير والكلاب، الأطفال أيضاً، ما زرع حالة من التوجّس والرفض لوجودهم. لكن، بعدما سمحت الشركات الصينية للسكان بالعمل فيها، اختبروا أمراً مختلفاً تماماً".
يتابع شيهب أنّ الاحتكاك بين الطرفين جعل الجزائريين يدركون الفرق الشاسع في احترام المواعيد وتقديس العمل وتثمين الجودة والكفاءة: "في الوقت الذي يجلس فيه العامل الجزائري ساعةً لتناول الغداء، كان العامل الصيني يأكل بيد ويشتغل بأخرى، ويلتحق بالعمل قبل الدوام بنصف ساعة فيما يأتي الجزائري متأخراً ساعة أو ساعتين".
في هذا الإطار، يتحدّث عبد العليم. ك عمّا يسميه "عبقرية الإنسان الصيني" في إقناع الجزائريين بوجوده: "يمشون في جماعات صغيرة، خارج أوقات العمل، من غير ثرثرة زائدة أو عرقلة للآخرين، ويتأمّلون الأمكنة والوجوه، بما يوحي برغبتهم العميقة في المعرفة، ويحترمون الخصوصيات الدينية للمسلمين، فهم يوقفون الموسيقى عند ارتفاع الأذان، ولا يأكلون في الشارع خلال شهر رمضان".
عام 2009، حدث شجار بين شاب صيني وآخر جزائري، في ضاحية باب الزوار في الجزائر العاصمة، استنجد فيه كلّ واحد منهما ببني جلدته، فكان مشهد الدماء مؤشراً على أنّ هناك فخاخاً اجتماعية كان على سلطات الطرفين أن تتدخل لنزعها، وإلّا ضاعت كلّ فرص التعاون الاقتصادي بينهما. أصدر المقيمون الصينيون بياناً اعتذروا فيه من الجزائريين، وشرعوا في ممارسة استراتيجيات تقارب جديدة، منها تعلم لهجة الجزائريين، ومعرفة موسيقاهم وفنونهم، وتشغيلهم في المحلات التجارية التي يشرفون عليها، وفتح مطاعم صينية.
في شارع حسيبة بن بوعلي، بالجزائر العاصمة، تشرف وافدة صينية على محل متخصص في الأقمشة الصينية، وتشغّل معها ثلاث فتيات جزائريات، وتتواصل معهن ومع الزبائن باللهجة المحلية. تقول: "ما إن مرّت ثلاث سنوات حتى تعلمت اللغة، وأجدها حلوة وخفيفة. كان اهتمامي بها في البداية لدواعٍ تجارية، أمّا اليوم فأنا أهتم بها لدواعٍ إنسانية وثقافية، إذ أرى نفسي، بالإضافة إلى كوني تاجرة، سفيرة لثقافة بلدي".
في مركز "مول بارك" التجاري في قلب مدينة سطيف، شرقاً، يترافق شابان يظهر من ملامحهما أنهما صيني وجزائري. تصدر عبارات باللغة الأمازيغية عن الشاب ذي الملامح الصينية: "تعبت رجلاي من المشي" فيردّ الآخر: "لنتوقف لشرب الشاي إذاً". يقول حسان لـ"العربي الجديد" إنّ صديقه الصيني تيان تعلم منه اللغة الأمازيغية: "وتعلمت منه تغيير القهوة بالشاي، وتصليح أجهزة الكومبيوتر، فهو يشرف على محلّ صيانة". من جهته، يقول تيان إنّ العلاقة بين الجزائريين والصينيين توشك على دخول عقدها الثالث، وهي مدّة خلقت جملة من الظواهر الاجتماعية التي لم تُدرس حتى الآن، منها الزواج المختلط: "أنوي الزواج بجزائرية، حتى لا أكون ملزماً بسياسة تحديد النسل في الصين، ويسرّني أن يكون أخوال أطفالي جزائريين".
قرب "مقبرة العالية" أكبر وأشهر مقبرة في الجزائر العاصمة، والتي خُصّص مربّع منها لدفن الصينيين هناك الحي الصيني. بات الطريق المؤدّي إليه متهالكاً لكثرة المركبات التي تدخله حاملة سلعاً صينية من الميناء، وتخرج حاملة أخرى إلى محلات الجملة الجزائرية. وفيما يغرق الصّينيون خلف حواسيبهم لإنجاز الصفقات، يعمل شبان جزائريون على تحميل وإفراغ الشّحنات. يعلّق عبد الرؤوف: "المهمّ أنني وجدت عملاً شريفاً. لسنا أفضل من أميركا، هناك حيّ صيني فيها ومطعم صيني ومدرسة صينية".
يقول الباحث في علم الاجتماع عمّار بن طوبال إنّ الجزائري، وهو يخرج من عشرية سادها الخوف والموت والانغلاق، كان يفتقد إلى نموذج للنجاح والانخراط في الحياة، فكان الصيني ذلك النموذج الذي يبحث عنه. بدوره يعتبر الكاتب كمال قرور، رئيس "منتدى المواطنة"، أنّ سبب التقارب السريع بين الجزائريين والصينيين يعود في عمقه إلى أنّ الصيني محايد في دينه وشخصيته في نظر الجزائري: "هو ليس الآخر الذي ارتكب مجازر في حقه كجزائري مثل الفرنسيين وكعربي مثل الصهاينة".