04 نوفمبر 2024
ضحايا للإرهاب في تونس غير معلنين
في كل عملية إرهابية غادرة، تقدم السلطات المختصة عادة قائمة في الضحايا والخسائر، وهي قائمة تزيد أو تنقص بمقتضى الشفافية وحرية الإعلام وما تتيحه القوانين من حق للمواطنين في النفاذ إلى المعلومة. كانت قائمة الضحايا تلك، لسنوات قليلة، تعد في تونس من أسرار الدولة، وقد ذهب بن علي سنة على إثر عملية جربة الإرهابية التي استهدفت، آنذاك، سياحاً ألماناً في معبد الغريبة في جربة (إبريل/نيسان 2011) إلى حد الادعاء، في بيان رسمي، أن الحادث ناجم عن تفجير عفوي لقارورات غاز تقلها شاحنة.
ولكن، ما لم تنشره تلك البيانات، حتى تلك الأكثر شفافية، أن للإرهاب، وهو يضرب غدراً، عدة ضحايا غير مرئيين، وهم لا يقلون أهمية عن الذين لقوا حتفهم ظلماً وعدوانا. لا أحد ينكر أن المحللين يضيفون، في مجرى تناولهم صورا أخرى للضحايا، كصورة تونس ومكانتها وجاذبيتها بالمعنى الاقتصادي، فلا أحد يجادل في أن صورة بلادنا، مثلاً، تضررت كثيراً في مناخٍ، تتصاعد فيه كراهية العرب والمسلمين عموماً. ستظل تلك الصوة لاصقة في أذهان الناس عقوداً طويلة: صور الجثث منتشرة على رمال كنا نصفها بالذهبية، وإذ بالدماء تكسوها قانية. تتوارى صورة تونس الشعب يريد الذي أسقط نظاما استبداديا بإرادته الصلبة، وفي سلميةٍ، قل أنْ تتكرّر في حالات مشابهة.
غير أن الضحايا الكثر للإرهاب يتجاوزون تلك الصورة. ولعل أبرز الضحايا غير المعلن عنهم هي الحرية، فتحت لافتة مقاومة الإرهاب، قلص عبد الفتاح السيسي، مثلاً، مجالها، حتى كاد يصادرها وباسم الذريعة نفسها، خصوصا وأن الإعلام قد بدا في صناعة جاذبية هذه الأطروحة، شاهدنا إعلامياً كان بوق دعاية لنظام بن علي المخلوع يقول، في استهزاء سافر، وبلهجة محلية، ما معناه "لقد أتخمتنا الحرية".
في حالات عديدة مماثلة، لا يمثل حرص السلطة على أمن مواطنيها وسلامة ضيوفها السبب الحقيقي لتك الإجراءات التي من شأنها، ولو بشكل مؤقت، أن تضيّق على الحريات، إنقاذا لها في نهاية الأمر. ولكن، يحدث ذلك في حقيقة الأمر، لأن السلطة ضاقت، أصلاً، بالحرية، وما الإرهاب سوى ذريعة للانقضاض عليها، خصوصا في أوطاننا. لم يعد أمر الدافعين إلى الإرهاب والمحرضين عليه أمراً خافياً، فهناك مستثمرون لا تروج بضاعتهم، إلا في مثل هذه المناخات.
التحرش بالحرية يتم من طائفتين: الأولى من بقايا النظام السابق وأركان الدولة العميقة، فيما يشبه التشفي والشماتة لإقناعنا بأننا أخطانا عندما ثرنا على بن علي، وهؤلاء على مذهب ما كان الفقهاء يرددونه "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم". يشتهون، في قرارة أنفسهم، أن يتصاعد الإرهاب لإجهاض التجربة برمتها، وتسليم البلاد لهم مجدداً. ولقد عبر بعضهم، من خلال ما رفعه من لافتاتٍ في بعض المدن التونسية، أخيراً، صراحة عن ذلك، وما صدع به إعلاميو البنفسج عن رغبتهم في عودة بن علي دليل على ذلك الحنين المرضي. أما الطائفة الثانية فتنحدر من لوبيات مصالح اقتصادية وسياسية وإعلامية وأمنية، تريد أن تعيد القبضة الحديدية، فالفوضى، كما يحلو لها تسمية الثورة وتشويهها، أضرت بمصالحهم، ولا يمكن لهم مزيد التحمل.
ويمكن أن نضيف إلى قائمة الضحايا الثقة التي كلما ارتفع نسق العمليات الإرهابية الغادرة ضعف منسوبها على شكل مسرح عبثي، يذكّرنا بالرائعة المصرية (رية وسكينة). شهدت الدول التي خاضت حروباً أهلية، أو حروبا قاسية على الإرهاب، أشكالا عبثية من فقدان الثقة، سواء التي يفترض أن تكون قائمة بين السلطة والمعارضة، أو بين مكونات الطبقة السياسية، أو حتى فيما بين المواطنين ودولتهم، وخصوصا أجهزتها الأمنية والعسكرية. بدأت الثقة في بلادنا تتبدد بشكل مريع، وهي إحدى ضحايا الإرهاب، ويجسد اختلاف الروايات واللهث وراءها، حتى تلك الأشد غرابة وسوريالية مؤشراً على ما ذكرنا، وتعزز هذا الشعور، أخيراً، حينما قدمت الصحافة الأجنبية، وبعض شهود العيان، روايات مخالفة للرواية الرسمية، على ضبابيتها وغموضها. وربما كان حلول فريق المحققين الأجانب من بريطانيين وألمان وغيرهم أمراً يغذي سكب الزيت على نار الشك وأزمة الثقة تلك.
يجرف الشك معه ضحية أخرى، هي الحقيقة التي ما زالت مفقودة، فمنذ سقوط أول ضحية للإرهاب بعد الثورة (مايو/أيار 2011)، مرورا بجملة الاغتيالات السياسية التي عرفتها تونس بعد الثورة، وصولاً إلى عملية سوسة، أخيراً، من دون أن ننسى عملية متحف باردو، ظلت الحقيقة غائبة، وربما سيوكل للقضاء المستقل إماطة اللثام عنها. ولكن، هناك حقائق متخيلة، تنهش عقول الناس ومشاعرهم، وتخلق رأيا عاماً، بقطع النظر عما سيقوله القضاء قادماً. رأينا إعلاما يجرم حركة سياسية بعينها، وينتصب قاضياً قبل الأوان، وما الشعارات التي يرددها بعضهم أمام المحاكم حالياً، بقطع النظر عن لاأخلاقية الضغط على القضاء، ومحاولة توجيهه، إلا تشكيل لصور حول الناس. أما حكاية المتهمين الذين لا يقبعون وراء القضبان، فقد غدا حديثاً متداولاً لدى أوساط عديدة، وما "الإرهابيون" المعلن عنهم، حتى الذين تم القبض عليهم، سوى أدوات وأزرار تحركهم أياد خفية، مخابرات إقليمية ودولية، لوبيات مال وإعلام وبقايا نظام قديم، وأركان صدئة لكنها شديدة الأذى للدولة العميقة.
آخر ضحية للإرهاب التي لم يعلن عنها في بلادي الأخلاق السياسية التي بانت هزيلة نحيفة، ولا متن لها، فحين يتلاعب الإعلام، وبتواطؤ مع رموز الطبقة السياسية، باسم السبق الصحافي وشعارات "لا حياد مع الإرهاب" بالوقائع والأحداث، لتقديمها مشوهة، بل وفيها تحريض على العنف وانتهاك للكرامة البشرية للأموات، ولو كانت جثث الإرهابيين، نكون قد ولجنا لعبة قذرة، فاقدة أي قواعد. في المعارك، يمكن ألا تتحلى بأخلاق الفرسان. ولكن تظل وأنت تحارب بشراً. جثة الإرهابي تكف عن أن تكون جثته ما أن يقتل. إنها الجثة التي واراها قابيل درءاً، لسوءة أخيه، حتى ولو كان قاتله. يعلمنا الغراب بعض ما به أصبحنا بشراً، احترام الجثة وردمها، حتى وإن كانت لبشر لم يقم للحياة حينما كان حياً وزنا. فما بالك بجثث لسياح أتوا إلى بلادنا حباً؟
ولكن، ما لم تنشره تلك البيانات، حتى تلك الأكثر شفافية، أن للإرهاب، وهو يضرب غدراً، عدة ضحايا غير مرئيين، وهم لا يقلون أهمية عن الذين لقوا حتفهم ظلماً وعدوانا. لا أحد ينكر أن المحللين يضيفون، في مجرى تناولهم صورا أخرى للضحايا، كصورة تونس ومكانتها وجاذبيتها بالمعنى الاقتصادي، فلا أحد يجادل في أن صورة بلادنا، مثلاً، تضررت كثيراً في مناخٍ، تتصاعد فيه كراهية العرب والمسلمين عموماً. ستظل تلك الصوة لاصقة في أذهان الناس عقوداً طويلة: صور الجثث منتشرة على رمال كنا نصفها بالذهبية، وإذ بالدماء تكسوها قانية. تتوارى صورة تونس الشعب يريد الذي أسقط نظاما استبداديا بإرادته الصلبة، وفي سلميةٍ، قل أنْ تتكرّر في حالات مشابهة.
غير أن الضحايا الكثر للإرهاب يتجاوزون تلك الصورة. ولعل أبرز الضحايا غير المعلن عنهم هي الحرية، فتحت لافتة مقاومة الإرهاب، قلص عبد الفتاح السيسي، مثلاً، مجالها، حتى كاد يصادرها وباسم الذريعة نفسها، خصوصا وأن الإعلام قد بدا في صناعة جاذبية هذه الأطروحة، شاهدنا إعلامياً كان بوق دعاية لنظام بن علي المخلوع يقول، في استهزاء سافر، وبلهجة محلية، ما معناه "لقد أتخمتنا الحرية".
في حالات عديدة مماثلة، لا يمثل حرص السلطة على أمن مواطنيها وسلامة ضيوفها السبب الحقيقي لتك الإجراءات التي من شأنها، ولو بشكل مؤقت، أن تضيّق على الحريات، إنقاذا لها في نهاية الأمر. ولكن، يحدث ذلك في حقيقة الأمر، لأن السلطة ضاقت، أصلاً، بالحرية، وما الإرهاب سوى ذريعة للانقضاض عليها، خصوصا في أوطاننا. لم يعد أمر الدافعين إلى الإرهاب والمحرضين عليه أمراً خافياً، فهناك مستثمرون لا تروج بضاعتهم، إلا في مثل هذه المناخات.
التحرش بالحرية يتم من طائفتين: الأولى من بقايا النظام السابق وأركان الدولة العميقة، فيما يشبه التشفي والشماتة لإقناعنا بأننا أخطانا عندما ثرنا على بن علي، وهؤلاء على مذهب ما كان الفقهاء يرددونه "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم". يشتهون، في قرارة أنفسهم، أن يتصاعد الإرهاب لإجهاض التجربة برمتها، وتسليم البلاد لهم مجدداً. ولقد عبر بعضهم، من خلال ما رفعه من لافتاتٍ في بعض المدن التونسية، أخيراً، صراحة عن ذلك، وما صدع به إعلاميو البنفسج عن رغبتهم في عودة بن علي دليل على ذلك الحنين المرضي. أما الطائفة الثانية فتنحدر من لوبيات مصالح اقتصادية وسياسية وإعلامية وأمنية، تريد أن تعيد القبضة الحديدية، فالفوضى، كما يحلو لها تسمية الثورة وتشويهها، أضرت بمصالحهم، ولا يمكن لهم مزيد التحمل.
ويمكن أن نضيف إلى قائمة الضحايا الثقة التي كلما ارتفع نسق العمليات الإرهابية الغادرة ضعف منسوبها على شكل مسرح عبثي، يذكّرنا بالرائعة المصرية (رية وسكينة). شهدت الدول التي خاضت حروباً أهلية، أو حروبا قاسية على الإرهاب، أشكالا عبثية من فقدان الثقة، سواء التي يفترض أن تكون قائمة بين السلطة والمعارضة، أو بين مكونات الطبقة السياسية، أو حتى فيما بين المواطنين ودولتهم، وخصوصا أجهزتها الأمنية والعسكرية. بدأت الثقة في بلادنا تتبدد بشكل مريع، وهي إحدى ضحايا الإرهاب، ويجسد اختلاف الروايات واللهث وراءها، حتى تلك الأشد غرابة وسوريالية مؤشراً على ما ذكرنا، وتعزز هذا الشعور، أخيراً، حينما قدمت الصحافة الأجنبية، وبعض شهود العيان، روايات مخالفة للرواية الرسمية، على ضبابيتها وغموضها. وربما كان حلول فريق المحققين الأجانب من بريطانيين وألمان وغيرهم أمراً يغذي سكب الزيت على نار الشك وأزمة الثقة تلك.
يجرف الشك معه ضحية أخرى، هي الحقيقة التي ما زالت مفقودة، فمنذ سقوط أول ضحية للإرهاب بعد الثورة (مايو/أيار 2011)، مرورا بجملة الاغتيالات السياسية التي عرفتها تونس بعد الثورة، وصولاً إلى عملية سوسة، أخيراً، من دون أن ننسى عملية متحف باردو، ظلت الحقيقة غائبة، وربما سيوكل للقضاء المستقل إماطة اللثام عنها. ولكن، هناك حقائق متخيلة، تنهش عقول الناس ومشاعرهم، وتخلق رأيا عاماً، بقطع النظر عما سيقوله القضاء قادماً. رأينا إعلاما يجرم حركة سياسية بعينها، وينتصب قاضياً قبل الأوان، وما الشعارات التي يرددها بعضهم أمام المحاكم حالياً، بقطع النظر عن لاأخلاقية الضغط على القضاء، ومحاولة توجيهه، إلا تشكيل لصور حول الناس. أما حكاية المتهمين الذين لا يقبعون وراء القضبان، فقد غدا حديثاً متداولاً لدى أوساط عديدة، وما "الإرهابيون" المعلن عنهم، حتى الذين تم القبض عليهم، سوى أدوات وأزرار تحركهم أياد خفية، مخابرات إقليمية ودولية، لوبيات مال وإعلام وبقايا نظام قديم، وأركان صدئة لكنها شديدة الأذى للدولة العميقة.
آخر ضحية للإرهاب التي لم يعلن عنها في بلادي الأخلاق السياسية التي بانت هزيلة نحيفة، ولا متن لها، فحين يتلاعب الإعلام، وبتواطؤ مع رموز الطبقة السياسية، باسم السبق الصحافي وشعارات "لا حياد مع الإرهاب" بالوقائع والأحداث، لتقديمها مشوهة، بل وفيها تحريض على العنف وانتهاك للكرامة البشرية للأموات، ولو كانت جثث الإرهابيين، نكون قد ولجنا لعبة قذرة، فاقدة أي قواعد. في المعارك، يمكن ألا تتحلى بأخلاق الفرسان. ولكن تظل وأنت تحارب بشراً. جثة الإرهابي تكف عن أن تكون جثته ما أن يقتل. إنها الجثة التي واراها قابيل درءاً، لسوءة أخيه، حتى ولو كان قاتله. يعلمنا الغراب بعض ما به أصبحنا بشراً، احترام الجثة وردمها، حتى وإن كانت لبشر لم يقم للحياة حينما كان حياً وزنا. فما بالك بجثث لسياح أتوا إلى بلادنا حباً؟