في عيادته المتواضعة، وسط حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، يستقبل الطبيب الفلسطيني محمد محمود أبو الكاس (74 عاماً) ما بين 30 و40 مريضاً يومياً، غالبيتهم من الأطفال الفقراء، ويتمنى لو أنه كان باستطاعته أن يستقبل عدداً أكبر من المرضى، لكن سنّه وحالته الصحية، لم تعودا تسمحان له بذلك.
في غرفة صغيرة تضم سريراً صغيراً ومكتباً، تشبه متحفاً قديماً للصور والقطع الأثرية، لم يترك الطبيب السبعيني هدية أو صورة تذكارية إلاّ وعلّقها فيها، وهو الذي بوسعه أن ينتقل إلى عيادة أكبر وأوسع، في أحياء أقرب إلى الطبقة الميسورة في المجتمع، إلاّ إنه لا يزال يؤثر أن يبقى في عيادته الصغيرة التي أنشأها في المبنى الذي يسكنه، منذ أن تخرّج من كلية الطب منذ أكثر من 44 عاماً.
وتخرّج الطبيب أبو الكاس من كلية الطب في جامعة الأزهر بمصر، عام 1976، بعد مكوثه هناك لأكثر من 8 سنوات، لم ير فيها أهله بسبب العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في حينه، حتى عاد في العام ذاته ليفتتح عيادته في حيّ الشجاعية، مسقط رأسه.
وبعد شهر من عودته فقط، رحل والده عن هذه الدنيا، وهو لا يزال يوصيه بالفقراء وعمل الخير، وألاّ يسأل أحداً من الناس مبلغاً عن كشفه، وأن يسامح الفقراء وأن يخفّف عن الميسورين أيضاً.
ويفخر الطبيب أبو الكاس بسيرة والده وهو يتحدث لـ"العربي الجديد" عن حياته، التي أمضاها في دعم الفقراء ومد يد العون لهم، حيث شارك والده في العمل بمهنة الجزارة قبل أن ينتقل للمرحلة الجامعية ليتخصّص في طب الأطفال.
وقبل أن يفارق والد الطبيب أبو الكاس الحياة، شهد على زواج ابنه. ويقول الطبيب: "عوضني الله عن والدي بزوجة صالحة، معلمة مربية فاضلة، كانت تهتم أيضاً بدعم الفقراء، وقد كانت سبباً في دفعي إلى هذا الطريق. إذ كانت تقدم لي المال من راتبها الخاص، الذي كانت تتقاضاه كمعلمة من وكالة الغوث، من أجل تقديم العلاج المجاني للكثير من المرضى الفقراء، وكانت مهتمة بهذا الفعل حتى آخر يومٍ في حياتها قبل ستة أشهرٍ فقط من الآن".
ولا يطلب طبيب الأطفال أبو الكاس من مرضاه، إن كانوا فقراء أو ميسورين، أي مبالغ مالية مقابل علاج أطفالهم، ويترك لهم حرية دفع الأجرة التي يقدرون عليها. ويضيف: "منذ أول يوم من عملي في هذه المهنة الكريمة، لم أطلب من أي مواطن، سواء كان فقيراً أو غير ذلك، أي مبلغ مقابل علاج ولده، وأترك له أن يدفع ما تطيقه نفسه".
وفي كثير من الأحيان يشعر الطبيب الفلسطيني أنّ بعض أهالي المرضى، خاصة النساء الفقيرات اللواتي يصطحبن أطفالهن للعلاج في العيادة، بحاجة إلى المال لشراء العلاج، فيصرفه لهم مجاناً، أو يقوم بدفع ثمنه لهنّ حتى يتسنى شراؤه من الخارج.
ويصرّ الطبيب على أن يعمل في عيادته الصغيرة حتى آخر يوم في حياته، ويقول "أشعر أنّ الله يمدّني بالقوة والعافية لأقدّم الخير وأخدم الناس. إذ لا أزال أستقبل من 30 إلى 40 مريضاً بشكل يومي، ولا أتأفف من تقديم الخدمة للناس ومساعدتهم، فهذا ما تربيت عليه وأربّي عليه أولادي".
ويتمنى الطبيب الفلسطيني أن يحذو زملاؤه الأطباء في التخصّصات المختلفة حذوه، بالتخفيف عن الناس، سواء في فلسطين أو خارجها، ويضيف أنّ عمل الخير ومساعدة الناس خلّف له حياة ملؤها الطمأنينة والراحة والسكينة والعافية.