من بين الخلافات بين مدرستَي البصرة والكوفة حول معاني مفردات العربية خلافٌ لافت عن معنى كلمة إنسان، فبينما قال البصريون إنه مشتق من الأنس في مقابل النفور والوحشة، ذكر الكوفيون أنه مشتق من النسيان؛ فالإنسان نسّاء في تقديرهم.
اللافت أن الحروب في جميع الأمكنة والأزمنة كانت تستهدف الذاكرة لدى البشر، حتى لو كانت تستهدف القضاء على حياتهم. وفي هذا السياق ترى أن الغزاة، مثلاً، كانوا يحرقون المكتبات، ويدمّرون المدن، ويمحون الآثار المتبقّية من الأجداد عمداً في سبيلهم لمحو ذاكرة المكان الذي يحتلّونه، آملين أن يتمكّنوا من محو ذاكرة سكّانه، وهو ما ينفي صحّة رأي نحاة الكوفة، بينما لا يؤكّد صحّة رأي نحاة البصرة الذين يُضمّنون تفسيرهم معنىً يشير إلى أن الإنسان هو الذي يبصر ويتبصّر في شؤون الحياة.
وقد أنتج الناس عبر التاريخ طرقاً للحياة تقوم على إبقاء الذاكرة حيّةً تجاه الأمكنة التي يعيشون فيها، وتجاه الأزمنة التي مرّوا بها، ومن الصعب انتزاعها من ذاكرتهم، بينما يبدو أن من السهل والمتعمَّد أحياناً انتزاع تلك الأمكنة من الوجود.
الملاحَظ أنَّ المدن التي لم تشهد الحرب في سورية، شهدت عدوى التدمير أيضاً، فقد انتشرت حمّى الهدم فيها كما لو كانت صدىً أو استجابةً لسلوك الحرب؛ إذ بدأت تنشأ الآلاف من العمارات والأبنية على أنقاض البيوت القديمة التي يهدمها المقاولون بحماسة لا تقلّ عن حماسة المَدافع والقنابل، ويزيلونها من الوجود، في طفرةٍ يُسمّيها رجال الأعمال الطفرة العقارية، بينما يمكن للذاكرة أن تسمّيها موتاً. بل إن حجم العقارات التي تُبنى يزيد عن حاجة البشر، فثمّة أحياء كاملة من الأبنية الخرسانية تخلو من السكّان، أو يقطن فيها بضع عشرات في شقق متفرّقة تقبع وسط خلاء مريع من العمارات الفارغة.
لم تعُد لدينا سوى بضعة أحياء مستعملة لا تستطيع أن تحمي نفسها من هجوم الإسمنت، ومن غير الواضح، حتى لأولئك الذين يستثمرون في العقارات، المصير المؤكّد لاستثماراتهم. ومن غير المؤكّد أيضاً أن سبب الاستثمار هو الطمأنينة التي تمنحها العقارات الثابتة لرأس المال المتحرّك؛ ففي كثير من الأحيان، يحوّل العقارُ الفارغ، الذي لا يتحرّك في سوق العمل، رأسَ المال إلى جليد.
وحين دُمّرت الآثار القديمة بفعل الاشتباكات، شهدت البلاد بكائيات كثيرة، في حين لم يحفل بعض البكّائين بتدمير الحواضر الحية، ومن بينهم أشخاص اقترحوا بأنفسهم تدمير هذا الحي أو ذاك، أو أغمضوا عيونهم راضين عن نهاية سوق قديم، بحيث صارت الذكرى اختصاصاً يُعنى بالممالك القديمة وحدها.
وفي هذه المواقف، تبدو الذاكرة مرتهنة للمواقف السياسية، بينما يظهر الدفاع عن الأمكنة القديمة مجرّدَ إطار انتهازي يدّعي الإنسانية.
قال يان أسمن في كتابه "الذاكرة الحضارية": "إن كلَّ مجتمع يكوّن لنفسه حضارةً للتذكُّر بطريقته الخاصة". وكل ذاكرة لا تتكوّن إلا في العلاقة مع الآخرين، وما يُخشى منه أن تكون المجتمعات الصغيرة المتحاربة في طريقها لتحطيم كل الطرق الممكنة للذاكرة.