28 ابريل 2017
عاطلون عن الحياة
مبروكة علي (تونس)
استفقت اليوم مذعورة بعد صراع مع كوابيسي التي لا تنتهي، وبحكم أنّني أنسى دائماً شحن هاتفي، سألت زميلتي في الغرفة عن الوقت، فأجابتني: "نامي اليوم عطلة عيد العمال".
للوهلة الأولى، بدت لي الجملة كأحجية هاربة من كوابيسي، وهو ما جعلني أغرق في الضحك المر: عطلة عيد عمال في وطن يغرق في البطالة، البطالة هي المرض الذي يأكل عظام روح الطبقة التي من المفترض أن تكون "عمالا"، أليس هذا أمراً يدعو للتأمّل والضحك، تأمل القهر في أقصاه النفسي والوجودي؟
عندما يتأمل أيّ فرد حياته، وهو يترنح على حافة الثلاثين (و ربما أكثر) ليجد أنّ تلك اللحظة الكبيرة، والتي من المفترض أن تكون نابضة بالحياة قد هُدرت، هكذا من دون أيّ فعل يُذكر، كيف عساه أن يشعر؟ كيف يبرّر كلّ هذا "اللاحق" لذاته؟ كيف عساه أن يجد صياغاتٍ ممكنة لتلك الرابطة الاجتماعية التي وجد نفسه عالقاً داخلها؟ أليس وجودنا داخل رابطة اجتماعية ما يفترض العدل؟ أليس العدل هو الوجه الآخر للحق؟ أليس العمل حق تفرضه العدالة الإجتماعية؟
حين تضيع العدالة الاجتماعية، نبدأ الشعور بالإغتراب، نبدأ بالتساؤل: هل كافية تلك الأشياء، من قبيل اللغة والدين والجنسية.. إلخ، إن كانت كافيةً لتجعلنا نشعر بالإنتماء، سيركل أحد المتفائلين ما أمامه، ويقول العمل ليس كل الإنتماء، أقول نعم العمل ليس كله، وهو ككل أفعالنا الحياتية والبشرية قابلٌ أن يتحول إلى سجن، ولكن ليس هذا ما أتحدث عنه، أتحدث عن ذلك المعنى الجوهري لوجودنا نحن البشر، إذ كيف نفسر الوقت في حياتنا؟
في أواخر سنة 2016، اتصل بي صديق يسألني إن كنتُ راغبة بالعمل في معمل الملابس المستعملة، نظراً لحاجتهم لعمال وقتيين، وافقت على الفور ومن دون أيّ تردّد، على الرغم من اعتراض عائلتي، أصحو بكلّ استعدادي وفرحي. داخل المعمل، كنت أشعر بذلك الانتماء، تحضر تونس بناس الأمية والمتعلمين، بالغاضب وبالراضي، تحضر من جنوبها إلى شمالها، بأخبارها الكثيرة.. شيء عجيب أن تكون البلاد (كلّ البلاد) على طاولات الثرثرة، تثير ما تثير، ولا تترك فيك غير الإبتسامة في الختام.
تكاد تكون الصورة واحدةً، وأنا أتصفح ذاكرتي، من المعروف أنّ الفترة التي تلت استقلال تونس تميّزت بموجة هجرة كبيرة للعمل في فرنسا، خصوصاً من الجنوب التونسي، حتى أنّ الكثير من أهازيج الجنوب إلى اليوم تتغنّى بتلك المرحلة، إذ لطالما بهرتني تلك الرغبة الحية (لدى الرجال الكبار العائدين بعد أن تقاعدوا) بالعمل، يختارون دائماً الأعمال الفلاحية، على الرغم من شحّ السماء وقسوة الأرض، يجدون فيها ملاذهم الآمن، أتساءل: أي فلسفةٍ يحرثون من دون أن يشعروا بذلك، فلسفة الأرض، أول الإنتماء وآخره، وما بين أوله وآخره تلك الرحلة التي يمضيها الإنسان.
عندما تسأل أحدهم: ماذا تفعل، وأنت بهذا العمر، تغرس وتسقي في انتظار حصارٍ مرهون بمزاج السماء؟ يجيبك بأنه يمضي الوقت. الحقيقة لو ترجمتُ هذا الإجابة سأقول إنّ الصياغة قد خانته، وبأنني سمعتها "أستثمر وقتي".
العمل استثمار للوقت، وما الوقت إلا تلك اللحظة التي تسمّى عمر، والتي نعيشها جميعاً.
للوهلة الأولى، بدت لي الجملة كأحجية هاربة من كوابيسي، وهو ما جعلني أغرق في الضحك المر: عطلة عيد عمال في وطن يغرق في البطالة، البطالة هي المرض الذي يأكل عظام روح الطبقة التي من المفترض أن تكون "عمالا"، أليس هذا أمراً يدعو للتأمّل والضحك، تأمل القهر في أقصاه النفسي والوجودي؟
عندما يتأمل أيّ فرد حياته، وهو يترنح على حافة الثلاثين (و ربما أكثر) ليجد أنّ تلك اللحظة الكبيرة، والتي من المفترض أن تكون نابضة بالحياة قد هُدرت، هكذا من دون أيّ فعل يُذكر، كيف عساه أن يشعر؟ كيف يبرّر كلّ هذا "اللاحق" لذاته؟ كيف عساه أن يجد صياغاتٍ ممكنة لتلك الرابطة الاجتماعية التي وجد نفسه عالقاً داخلها؟ أليس وجودنا داخل رابطة اجتماعية ما يفترض العدل؟ أليس العدل هو الوجه الآخر للحق؟ أليس العمل حق تفرضه العدالة الإجتماعية؟
حين تضيع العدالة الاجتماعية، نبدأ الشعور بالإغتراب، نبدأ بالتساؤل: هل كافية تلك الأشياء، من قبيل اللغة والدين والجنسية.. إلخ، إن كانت كافيةً لتجعلنا نشعر بالإنتماء، سيركل أحد المتفائلين ما أمامه، ويقول العمل ليس كل الإنتماء، أقول نعم العمل ليس كله، وهو ككل أفعالنا الحياتية والبشرية قابلٌ أن يتحول إلى سجن، ولكن ليس هذا ما أتحدث عنه، أتحدث عن ذلك المعنى الجوهري لوجودنا نحن البشر، إذ كيف نفسر الوقت في حياتنا؟
في أواخر سنة 2016، اتصل بي صديق يسألني إن كنتُ راغبة بالعمل في معمل الملابس المستعملة، نظراً لحاجتهم لعمال وقتيين، وافقت على الفور ومن دون أيّ تردّد، على الرغم من اعتراض عائلتي، أصحو بكلّ استعدادي وفرحي. داخل المعمل، كنت أشعر بذلك الانتماء، تحضر تونس بناس الأمية والمتعلمين، بالغاضب وبالراضي، تحضر من جنوبها إلى شمالها، بأخبارها الكثيرة.. شيء عجيب أن تكون البلاد (كلّ البلاد) على طاولات الثرثرة، تثير ما تثير، ولا تترك فيك غير الإبتسامة في الختام.
تكاد تكون الصورة واحدةً، وأنا أتصفح ذاكرتي، من المعروف أنّ الفترة التي تلت استقلال تونس تميّزت بموجة هجرة كبيرة للعمل في فرنسا، خصوصاً من الجنوب التونسي، حتى أنّ الكثير من أهازيج الجنوب إلى اليوم تتغنّى بتلك المرحلة، إذ لطالما بهرتني تلك الرغبة الحية (لدى الرجال الكبار العائدين بعد أن تقاعدوا) بالعمل، يختارون دائماً الأعمال الفلاحية، على الرغم من شحّ السماء وقسوة الأرض، يجدون فيها ملاذهم الآمن، أتساءل: أي فلسفةٍ يحرثون من دون أن يشعروا بذلك، فلسفة الأرض، أول الإنتماء وآخره، وما بين أوله وآخره تلك الرحلة التي يمضيها الإنسان.
عندما تسأل أحدهم: ماذا تفعل، وأنت بهذا العمر، تغرس وتسقي في انتظار حصارٍ مرهون بمزاج السماء؟ يجيبك بأنه يمضي الوقت. الحقيقة لو ترجمتُ هذا الإجابة سأقول إنّ الصياغة قد خانته، وبأنني سمعتها "أستثمر وقتي".
العمل استثمار للوقت، وما الوقت إلا تلك اللحظة التي تسمّى عمر، والتي نعيشها جميعاً.
مقالات أخرى
05 يناير 2017
17 ديسمبر 2016
21 نوفمبر 2016