من يقرأ دواوين الشاعر المغربي، عبد الكريم الطبال (1931)، الأخيرة، وعلى الأخص مجموعته الجديدة "في حضرة مولانا" (دار الحكمة، 2018)، يلفت نظرَه اشتغال متخيّله الشعري على أفق الكتابة الصوفية؛ فالقصائد تنشغل بالبوح الصوفي وبمكاشفات الذات بأسرارِ عشقها الخفيّ، وتتحوّل إلى وعاء يفيضُ بصور تنفتح إيحاءاتها العميقة على تجليات روحية، وهذا لا ينفصل عن البعد الحسيّ وعناصره في تشكيل جماليات القصيدة، عبر استعارات تُحقّق المسافة بين الذات واللغة، فتصير اللغة المنفلتة والهاربة مسكن الذات، وترجمانَ أشواق ملتبسةٍ في رحاب العشق.
يفتتح الشاعر عمله بقصيدة عنوانها "الطائر الميمون"، طائرٌ حبري يتداخل باللغة وقدرتها على تحقيق الوصال لكونها تمثيلٌ للوجد وسؤال الذات:
"لا تسكنُ الكلماتُ
في حبرٍ
ولا تأوي إلى ورقٍ
إذا هَبَّ المساءْ
هي بين بينْ
نارٌ على جبلٍ
تضيءُ على قريبٍ
في الشعابِ
ولا تضيءُ على بعيدٍ
في الرمالْ
بيتٌ على بحرٍ
تموجُ به الرياحُ
فيستحيلُ إلى رميمٍ
ثمَّ يعلو وحدهُ
قصراً على الأعماقْ
هي بين بينْ
ماءٌ على سُحبٍ
بلا ريشٍ
ولا أعشاب
سفرٌ إليك
إذا بلغْتَ إلى المدينةِ
لم تجدْ أحداً
وإذا بلغتَ إلى البدايةِ
كنتَ وحدكَ في الطريقِ
وهي الفراشاتُ
التي تجري
إلى أبدٍ
ولا تجري
هي بين بينْ"
يتجلّى الطائرُ الميمونُ هنا في صورة كلمات منفلتة من قيد الحبر والورق، تلك التي تصاحبُ الكونَ في تجلياته فتحلُّ فيه حلولَ الزائر المرتحل الذي لا مسكن يأويه، في العراءِ تقيم، وتحوّل الكائنات والأشياء والأمكنة، وتسكِنُها عالمَ الما بَين.
وفي قصيدة "عن المشي" يقول:
"الأغنياتُ
إذا خرجت من الناي
تاهت
وليست تفكِّرُ
في أيِّ روح تحلْ
..........
المتوغّل في غابة الورد
لا يستريح
إذا بلغ الزنبقات
أو الأقحوان
..........
الحمامة
تنسى إذا لقيَتْ
في السماء
الحبيبْ
تمشي بلا وجهة
وإن داخل البحرْ"
هكذا تُجسّد القصيدة معاناة العاشقين وتيههم، وانجذابهم اللامشروط لكل نداء روحي سحيق، حيث يتيه العاشق في غابة الورد، متنقّلاً بين وردة وأخرى، وحيث أغنيات الناي لا يعنيها في أي روح تحلُّ. تنبني القصيدة على متوالياتِ استعاراتٍ، وعلى قوّة التمثيل، لتعكس نظرة الشاعر إلى حال التائهين في عالم العشق الإلهي، بما هو رحلة كشف خفية تجد تجلياتها في مناجاة العاشق للمعشوق، حال يحكمُه الحلولُ في الآخر المتعالي ضمن أفقٍ يجعل الصوفي يذهلُ عن الوجود، ولا يرى فيه سوى المعشوق ذاتِه.
يقول، في نص "المتجوّل":
"في الشطآن
التي ما مررتُ بها
أتجوّلُ
سِرّاً
وأنا البطريقُ
أهندِسُ
كثبانَ الرَّمل
حدائقَ
أنحتُ
في الموجات الذهبية
نسواناً
يتنزَّهْن
وأنا المُتجوِّلُ
أسعدُ
بعدَ مشاهدتي
أصواتَ العشقِ
على الأمواج"
صور شعرية، يصنع الشاعر في أبعادها الحسية عالمه السحري، ليشخص نظرته إلى عالم الوجدان، وعالم الروح، لكنه لا ينفلت من البعد الحسي إلا لتشخيص ما هو روحي، مُتمثّلاً عبر المجازات تجلّيات هذه الصور وجوهرها.
في قصيدته "عن الموسيقى"، والتي يفتتحها بديباجة من كلام لجلال الدين الرومي، مثل كل القصائد الأخرى في الجزء المعنون "في حضرة مولانا" والتي تشتمل على خمس قصائد هي: "عن المشي"، "عن الحلم"، "عن البيت"، "عن المفرد"، "عن القوت"، كتب الشاعر:
"....
أحياناً
أرحلُ
في الغيب بعيداً
عن أرض الكلمات
عن أرض الصمت
وأنا في الخارج
ألقى اسمكَ
مكتوباً في الأشجارْ
عنادلَ
مرسوماً في البحر
نوارسَ
منحوتاً في الأرياح
جلاجلَ
وإذا بي أسمعُ
في اسمكَ
موسيقى
لم أسمعْها
من أيِّ قيثارٍ
أو نايٍ
أو شلَّالْ
موسيقى
تقبِضُني
تبسُطُني
تلْوي بيَ
في الأصداءْ".
بهذا التوقيع الشعري العذب، يعزف عبد الكريم الطبال أغنيته عن الموسيقى، موسيقى اسم الجلال المكتوب في الأشجار، والمرسوم في البحر، والمنحوت في الأرياح. وهكذا يكون اسم المعشوق موسيقى بلا مثيل، تماماً كمعشوق يتعالى عن الشبيه، موسيقى تقبض وتبسط، تجعل الذات تتيه في الصدى وتحيا في ملكوت الروح، وعوالم الوجدان. هنا يعزفُ المتخيّل الشعري نغماته على وتر حسّي تنبني عليه العوالم الروحية والوجدانية.