انعكس تصدّع العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا في الآونة الأخيرة على منطقة شرقي نهر الفرات السورية، التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي يشكّل المقاتلون الأكراد عصبها الرئيسي، ويدعمها التحالف الدولي، وعاد الحديث عن عمل عسكري تركي في المنطقة إلى واجهة المشهد في ظل حشود كبيرة من الجيش التركي، وهو ما قد يدفع إلى مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات، في ظل تهديد "قسد" بـ"إشعال نيران الحرب" على طول الحدود السورية التركية.
وفي سياق محاولات رأب الصدع بين أنقرة وواشنطن حيال سورية، بحث وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو، مع نظيره الأميركي مايك بومبيو، في مكالمة هاتفية السبت، إنشاء "منطقة آمنة" في شمال شرقي سورية، والأوضاع في إدلب ومنبج السوريتين، وفق وكالة "الأناضول" التركية. ومن المقرر أن يزور وفد أميركي رفيع المستوى أنقرة اليوم الإثنين لاستكمال التباحث حول إنشاء "المنطقة الآمنة"، للحيلولة دون اندلاع صراع بين الجيش التركي وفصائل تابعة للمعارضة السورية مرتبطة به من جهة، و"قسد" من جهة أخرى. وكانت قناة إي خبر التركية، أفادت يوم الجمعة، بأن المبعوث الأميركي إلى سورية جيمس جيفري سيرأس الوفد، مشيرة إلى أن الملف السوري سيكون في صلب المباحثات بين الوفدين التركي والأميركي.
وتحدث التحركات السياسية رغم توتر العلاقات بين البلدين على خلفية استلام تركيا منظومة صواريخ أس 400 من روسيا، متجاهلة تحذيرات الولايات المتحدة، التي ردت على قرار أنقرة بإخراجها من برنامج تصنيع مقاتلات إف 35 المتطورة.
واللافت أن توقيت المباحثات التركية الأميركية يأتي بعد أيام من وصول تعزيزات عسكرية تركية كبيرة إلى الحدود السورية التركية قبالة مدينة تل أبيض شمالي الرقة، في خطوة تعني نيّة الجانب التركي حسم ملف شرقي الفرات.
ويبدو أن الجانب التركي ضاق ذرعاً بمماطلة الجانب الأميركي، الذي لم يبدد مخاوف أنقرة حيال محاولات الوحدات الكردية، التي تشكّل العمود الفقري لـ"قسد"، إنشاء إقليم يحمل الصبغة الكردية في شمال شرقي سورية، وهو ما تعتبره تركيا مساساً بأمنها القومي. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد شدد منذ أيام على ضرورة أن تصل "المنطقة الآمنة" في شمال شرقي سورية إلى عمق 30 إلى 40 كيلومتراً داخل الأراضي السورية انطلاقاً من الحدود التركية، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لم تفِ بوعودها المتعلقة بإخراج مسلحي الوحدات الكردية من منطقة منبج في محافظة حلب شمالي سورية.
وفي حال تطبيق فكرة "المنطقة الآمنة"، فإن ذلك يعني خروج الوحدات الكردية من أهم المدن التي تسيطر عليها حالياً، ومنها: عين العرب (كوباني) وتل أبيض ورأس العين والقامشلي.
ومن المتوقع أن يسعى الأميركيون لتبديد مخاوف الأتراك من الطموح الكردي في سورية بإقامة إقليم شبيه بإقليم كردستان العراق بمساعدة غربية، يمكن أن يغري أكراد تركيا للسعي إلى إقامة إقليم شبيه. ولم يعد أمام أنقرة كما يبدو إلا القيام بتحركات سياسية وعسكرية لوأد محاولات فرض إقليم كردي في شمال شرقي سورية من قبل أطراف غربية وعربية.
في المقابل، فإن "قوات سورية الديمقراطية" تلوّح بحرب واسعة النطاق في حال اقتحام الجيش التركي مناطق سيطرتها في شرقي الفرات وغربه، وهي لا تزال تسيطر على مدينة منبج وبعض ريفها الواسع.
وفي هذا الصدد، قال القائد العسكري لـ"قسد"، مظلوم عبدي، في تصريحات لصحيفة "يني أوزغور بوليتيكا" الكردية الصادرة في هولندا السبت، إن "أي هجوم من قبل الجيش التركي على مناطق سيطرتنا في سورية يعني ساحة حرب واسعة ممتدة من منطقة منبج (ريف حلب) إلى مدينة المالكية (ريف الحسكة أقصى شمال شرقي البلاد)". وأكد أن قواته "أخبرت الولايات المتحدة وفرنسا بأن هجوم تركيا سيحوّل المنطقة الحدودية على امتداد 600 كيلومتر إلى ساحة حرب".
ولفت عبدي إلى أن "الدولة التركية حشدت قوات كبيرة على الحدود مع شمال سورية، ونحن من جهتنا لدينا استعدادات، لذلك هناك حالة من التوتر وأرضية مُهيأة لحدوث استفزازات ومؤامرات، أي خطأ وأي شرارة يمكنها أن تتسبّب في إشعال النيران".
وفي تحذير للجانب الأميركي من تبعات أي حرب في شمال شرقي سورية، وفي تلويح بورقة تنظيم "داعش"، قال عبدي: "حربنا مع التنظيم هي الآن في مناطق الرقة ودير الزور، وإذا حصل أي هجوم علينا، سوف تنسحب وحدات حماية الشعب إلى المناطق الحدودية، ما يعني توقف الحرب على داعش، ومن شأن ذلك أن يعطي دفعاً للتنظيم لاستجماع قوته"، معتبراً أن "انسحابنا من تلك المناطق سوف يُعطي مجالاً للنظام السوري لإملاء الفراغ والسيطرة على تلك المناطق، وبهذا يتضرر الاتفاق بيننا وبين الولايات المتحدة والتحالف الدولي".
ومن الواضح وفق هذه المعطيات، أن "قسد" لا تستبعد خيار المواجهة مع الجانب التركي على طول الحدود التركية السورية المشتركة، خصوصاً أن شرقي الفرات هي الملاذ الأخير للوحدات الكردية، التي سبق أن اضطرت للانسحاب من منطقة عفرين شمال غربي حلب مطلع العام الماضي، تحت ضربات الجيش التركي وفصائل المعارضة المتحالفة معه.
وحول احتمال حصول اتفاق تركي أميركي قريب عقب زيارة الوفد الأميركي إلى تركيا، أشار اسحق إلى أن المبعوث الأميركي إلى سورية جيمس جيفري "يزور أنقرة بشكل دوري"، مضيفاً: "كان قد لوّح في الماضي باتفاق، ولكن التصعيد العسكري التركي على الحدود لا يوحي بذلك حالياً". وأكد أن "قسد" تتحسب للأسوأ في المرحلة المقبلة.
ويبدو واضحاً أن مجلس "مسد"، وقواته العسكرية "قسد"، يخشيان من تخلٍ أميركي عنهم لصالح علاقة التحالف التي تربط واشنطن بأنقرة على الرغم من تعرض هذه العلاقة لتصدع بسبب التقارب بين الأتراك والروس في الآونة الأخيرة.
وحاول المجلس السياسي لـ"قسد" فتح حوار مع النظام السوري في محاولة لتجنّب "الغضب التركي"، ولكن عدة جلسات تفاوض لم تثمر عن أي اتفاق، إذ يصر النظام على استرجاع شرقي الفرات من دون شروط مسبقة، في حين ترفض "قسد" عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة السورية عام 2011، مطالبة بأن تكون هذه القوات، جزءاً من جيش النظام، وأن تتمتع المنطقة بوضع خاص من خلال نظام لامركزي.
وتطالب القوى الكردية في شرقي الفرات، باعتراف النظام بالإدارة الذاتية التي شكّلتها في مناطق سيطرتها، رافضة مبدأ المصالحات الذي يطرحه النظام، والذي أثبتت الوقائع أنه مدخل لعودة النظام مرة أخرى إلى المناطق التي خرجت عن سيطرته، وإخضاعها من جديد.
أما العرب في شرقي الفرات، فلا يملكون تنظيمات عسكرية وسياسية يمكن أن تكون روافع لهم للمشاركة في تحديد مصير المنطقة، وانخرط الشباب العربي في "قسد" التي يحركها حزب "الاتحاد الديمقراطي" وذراعه العسكرية، الوحدات الكردية.