يصيح مدرب التربية العسكرية بأبنائه الطلبة:
- عهدنا
فيرد الطلبة:
- أن نتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية، وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة.
الوجه المعدني العابس للمدرب لا يوحي بأنه يمزح، إذن سنتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية، ولكننا سنسحق عصابة الإخوان المسلمين العميلة، لم لا؟! بل إن انتهينا من كتابة وظائفنا باكراً قد لا نكتفي بالتصدي للإمبريالية والصهيونية والرجعية فحسب، وإنما سنسحقها أيضاً.
وحده أبو فيصل كان يفتح فمه متثائباً عند ترديد هذا الشعار، لا لأن الساعة لم تتجاوز السابعة والنصف بعد، ولا لتعاطفه مع عصابة الإخوان المسلمين العميلة، أو لكونه إمبريالياً بطبعه، لكن أبو فيصل كان يؤمن بالعهود، ولم يكن يرى أنه قادر على التعهد بالوقوف في وجه الإمبريالية والصهيونية معاً وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة بعد، ولأن صمته قد يفسَّر بأنه اعتراض على الشعار، كان يفتح شدقيه متثائباً مقلباً مقلتيه في كافة الاتجاهات ليرصد أي نظرة قد تشكك بوطنيته.
عدا عن ذلك لم يكن أبو فيصل يفهم المغزى من ترديد الشعارات كل صباح، رغم أنها مكتوبة على جدران المدرسة وبخط كبير وجميل، كان يفكر أحياناً بأن استثمار الدقائق العشر التي يستغرقها الاجتماع الصباحي في النوم بدلاً من ترديد الشعار قد يساعد الطلاب أكثر.
وتفاجأ كثيراً أن والدته الموظفة في إحدى دوائر الدولة لا تردد الشعار عند وصولها إلى عملها، كيف ذلك؟! الكبار هم من يجب أن يتصدوا للإمبريالية والصهيونية، هم من يجب أن يرددوا الشعار، غريب! ألا يرددونه؟ ماذا يفعلون كل صباح إذن؟ بل إن والدته كانت تمرر أحياناً رسائل مبطنة يُستنتَج منها بأننا لا نريد التصدي لأحد (عُرف فيما بعد من تقرير طبي للجنة خاصة بالموظفين بأن الأم كانت تعاني من مرض عقلي أدى إلى فصلها من عملها، ويأكد أبو فيصل ذلك مبتسماً، إذ لاحظ أن والدته بدأت بقراءة رولان بارت وميشيل فوكو بعيد فصلها).
في الجلسات السرية التي كان يرافقه فيها صديقاه المقربان معتز وأحمد؛ وهما طالبان في الصف السابع مثله ليدخنوا معاً سيجارة "الحمراء الطويلة، الطول الفاخر" خلف صخرة في سفح جبل قاسيون، ناقش أبو فيصل وصديقاه الموضوع أكثر من مرة، واستقر رأيهم على أن "راعي الطفولة" الأب القائد حافظ الأسد لا يمكن أن يكون هو من وضع هذا الشعار.
وبالتأكيد لو عرف ما يطلبه منهم مدرب التربية العسكرية لحضر الأب القائد "راعي الطفولة" شخصياً إلى الاجتماع الصباحي ولصرخ في وجه المدرب أمام الجميع: يا شكيب أنت حمار، هؤلاء الأطفال يجب أن يتعلموا أولاً، لكي لا يصبحوا حميراً مثلك، فهم من سيصنعون القنبلة النووية والطائرات السريعة لنتصدى بها للإمبريالية والصهيونية، أما عصابة الإخوان المسلمين العميلة فسبق لي أن سحقتها، أغرب عن وجهي. فيغرب شكيب مطأطئ الرأس، ويصفّق الأطفال لراعيهم ويرمونه بالورود.
معتز يعرف أن الأب القائد لم يكتفِ بسحق تلك العصابة، بل سحق مدينته كلها، لذلك كان يدّعي دائماً أنه من دمشق، ولا أحد يعرف أنه من حماة وأنه يدخن الحمراء الطويلة إلا أبو فيصل وأحمد، ولذلك أيضاً كان صوته هو الأكثر ارتفاعاً في ترديد هذا الشعار تحديداً، بل وتعلم مع الوقت أن يعطي وجهه الطفولي شكلاً معدنياً جدياً كي لا يشك أي من الرفاق الشبيبيين أو من الرفاق المعلمين في نيته في التصدي للإمبريالية والصهيونية وسحق عصابة الإخوان المسلمين العميلة، حتى إن والده اضطر إلى صفعه مرة حين قال له معتز: أتمنى لو لم تُسحق عصابة الإخوان المسلمين قبل أن أولد، لكنت أول من بدأ بسحقها.
صفعه والده وأمره ألا يكرر تلك الجملة ثانية (وعُرف فيما بعد أن الأب عانى من الأرق لشهر كامل، يقول معتز أن السبب هو الصفعة ويبرهن على ذلك بأن والده لم يصفعه بعدها أبداً، في حين ترى أم معتز أن الخوف هو السبب، مؤكدة أن أول سؤال كان يسأله أبو معتز حين يعود من عمله هو: حدا سأل عني؟)
كانت عيون أبو فيصل وأحمد مليئة بالدهشة والمفاجأة حين عرفا من معتز أن العصابة تم سحقها، لكنه لم يشر إلى سحق المدينة، لا لعدم ثقته بصديقيه، بل لأنه اعتاد حذف ذلك الجزء من القصة. ولكن إن كانت عصابة الإخوان المسلمين قد سحقت فلماذا يريدنا شكيب أن نسحقها إذن؟ ربما شكيب نفسه إمبريالي وصهيوني وهو يلعب لعبة استخباراتية لصالحهما، هذا ما كانوا يناقشونه حين سأل معتز فجأة: أين تقع الإمبريالية والصهيونية؟ وبعد تفكير وتدخين، قال أحمد: إذا كان شكيب إمبريالياً وصهيونياً، فلا شك أن الإمبريالية والصهيونية تقعان في مكان ما في سورية.
أبو فيصل شكك في ذلك معتبراً أن إسميهما يوحيان بأنهما تقعان في الإتحاد السوفييتي أو أوروبا. لم يعترض أحمد، لكنه أخبره أن الاتحاد السوفييتي أصبح اسمه روسيا.
لم تكن مشكلة أحمد مع الإمبريالية والصهيونية فقط، بل مع المجتمع الاشتراكي الموحد أيضاً، ست سنوات قضاها في المرحلة الإبتدائية محاولاً حفظ ذلك الشعار الغريب، يصيح عريف المدرسة: رفيقي الطليعي، كن مستعداً لبناء المجتمع الإشتراكي الموحد والدفاع عنه. فترد الحناجر المقرورة كلها: مستعدٌ دائماً.
شك أحياناً أن أحداً ما يسمي الأشياء بأسماء كبيرة وغير مفهومة نكاية به هو شخصياً، أستاذ التاريخ والجغرافيا يقول إن أحمد من أفضل الطلاب لديه، في حين طلب منه مدرس التربية القومية الاشتراكية ألا يعود إلى المدرسة إلا ومعه والده لأنه فشل في معرفة أهداف ثورة الثامن من آذار، وحين أتت الأم (لأن الأب كما يقول أحمد كان مسافراً إلى دولة خليجية حيث يرسل بعض النقود من هناك للمساعدة في بناء المجتمع الاشتراكي الموحد والدفاع عنه، فيما تقول الشائعات إنه يعمل في التهريب لذلك يظل غائباً لفترات طويلة) قال لها المدرس إن ابنها بهيم، فليس إلا البهائم هم من يسألون عن الأشياء الواضحة.
ثم اضطر بعد ذلك بأسبوع فقط إلى فصل أحمد من المدرسة لمدة أسبوع بعد أن عبّر عن حبه الشديد لدرس الحركة التصحيحية (كما نصحته الوالدة) وأضاف أنه لم يفهم ما الأشياء التي صححتها بالضبط ولكنه متأكد أنها أشياء كثيرة.
النقاشات الطويلة خلف الصخرة القاسيونية كانت تنتهي عصراً، يتجه الأطفال الثلاثة بعدها إلى ملعب قريب هو الحارة الصغيرة التي يقطنونها، حيث يشكل حجران في كل طرف مرمى فريقي كرة القدم في الحارة، وفي أكثر من مرة اختبأ الأطفال تاركين الكرة وحيدة في الملعب أثناء مرور شكيب مدرب التربية العسكرية ذي الوجه المعدني العابس.
ولم تتناول نقاشات الأطفال الثلاثة في أي مرة لِمَ كان وجه شكيب عند مروره في الحارة يبدو معدنياً كئيباً أكثر منه معدنياً عابساً، ولَمْ يكتشفوا أنه كان يحمل إجازة في التاريخ إلا بعد سنوات عدة، حين درس أحمد في قسم التاريخ في كلية العلوم الإنسانية، هناك قرأ صدفة في أحد جداول شؤون الطلاب اسم شكيب كمرشح لبعثة جامعية إلى السوربون كونه حصل على الترتيب الثاني في القسم (وعُرِف فيما بعد أن شغف شكيب بتاريخ سوريا الحديث لم يكن له مثيل بين زملائه) وأكّد له بائع الجرائد الذي كبر في كلية الآداب وربما ولد فيها، أكد له هامساً أن شكيب كان شغوفاً بشكل خاص بثورة الثامن من آذار وحركة الشباطيين والحركة التصحيحية، وأنه أخبر صديقاً له أنه سيزور الأراشيف الفرنسية ليوثق تلك المرحلة التي ستكون موضوع رسالته في الماجستير، لكن البعثة الجامعية استقرت على الأول والثالث وأحد الرفاق من اتحاد الطلبة فقط.
* كاتب مسرحي من سورية