عندما تُغتال أرواحُنا

13 يوليو 2016
+ الخط -
صدمة تلو أخرى، قادرة على تهشيم عظامنا، فارفق بنا، يا الله، عندما يغتال قدرك أرواح من نحب.
الاغتيال السماوي المباح الذي نقف عاجزين أمامه، نبدي الرضى، ولا نستطيع أن نعترض، اغتيال الروح والمشاعر، قبل أن يكون اغتيال للجسد.
لا تكاد تخلو هذه الحياة من المرارة الحقيقية التي نتكبدها عند فراقنا أحدهم، لكنها الحقيقة التي لا تقبل الفرضيات، ولا التأويلات، الحقيقة الظاهرة التي نؤمن بوجودها، وداعنا لبعض، الموت الذي ينتظر الجميع.
رن هاتفي، مجبراً، رديت على المتحدّث الذي أخبرني أنه يحمل أخباراً سيئة، فخيّرني بين البوح بها. ومن دون ذلك، فأخبرته أنني لم أعد أطيق سماع أيّ أنباء سيئة، بينما كانت نبضاتي تتسارع في لحظة اضطراب داخلي، بعد تخييره ذاك.
رفضت سماع تلك الأخبار، وأصر على أن يسمعني إياها، خبر بألف جرح، يجعلك تتمزق من الداخل، قال بسرعة: أمين استشهد.. لم أكن مصدقًا لذلك، وإحساسي يقول إنها كلمة أخرى، أعدت عليه القول: ماذا قلت؟ فأخبرني أن أمين استشهد، ظننته يمازحني، وراودني الشك أن أمين بجواره ينتظر ردة فعلي كيف ستكون، لم أستعد بعد لتقبل الفاجعة، فراق الأعزاء مرّ، إلا بعد أن حلف لي بصوتٍ عال، محاولا أن يذهب عني كل الشكوك التي تعتلي خافقي، أن أتقبل هذا الوجع، أن أواجه مصيره، حزنٌ سريع يتسلل إلى أجزاء جسدك، بخبرٍ، صاعقة كهذا ... أقفل سماعة الهاتف، وقلبي يتفطر ألما لِما سمعت .
وقفت قليلًا، أتذكر أرشيفنا من الذكريات، أعود بالذاكرة قليلًا، كيف كانت تلك الملامح الجميلة تعتلي حاجبه، الأمل وهو يصلي بين جفنيه، القدر حين يعزف أعزوفة الموت لحنًا لنا.
رن هاتفي مرة أخرى، من ذلك الشخص، فقمت بالرد، فقال لي ممازحًا: وهل صدقت أيها الأبله؟ وكأنه أعاد لي روحي من جديد بعد أن كاد يسلبها، حلّفته بالله مرة أخرى عن صحة تلك الأنباء، والشغف في داخلي يلتهب، وأذني تنتظر تأكيد ذلك الخبر، شواء الروح عن بعد، جعلني كجوال أنفذ كل ما لدية من مشاعر، فأراد إعادة شحنه من جديد بنفس الأسلوب، لكنه أكد أنه استشهد، موضحًا أنه يريد ألا أخبر أحدا، فقد يتضرر من هم بجواره، فالحروب باتت ألوانها مختلفة عن السابق، قد تموت ولا يسلم أحبابك منه، قد تسوقه إليهم أيضا، فأخلاقيات الحروب ماتت، من ساقوها إلينا، زعماء الحروب، كي نموت ليس إلا، كي تبقى هذه الدنيا لهم، يقاسمونك أبسط الأشياء، حتى السعادة لها ضريبة بالنسبة لهم، ليس من حقك أن تمتلكه طيلة الوقت.
اغتالني ثالث مرة، بعد أن اغتالني القدر والخبر معًا..لا أكاد أصدق، كيف لتلك الأرواح أن تنجر إلى الحروب، كيف للأمل أن يتعاطى لتلك الأشياء، الشمعة المضيئة تنصهر، تذوب لتضيء، لم تترك لنا الحياة أية فرصة بين أن نقررماذا نريد، أو أن نعلن رحيلنا إلى السماء، الشغف الجميل للقاء الله، الحب الفطري الدائم التي لا تحكمه عواطف.
كم نحزن من الأعماق حقًا، عندما نفقد أحدهم، ليتهم يعلمون بجراحنا قبل أن يقرروا رحيلهم عنا، ففي موتك قد تسدي جرحًا خصيصًا لغائب، كم تنهكنا لحظات الفراق، كم تزهق أرواحنا دون ذنب، الحرب، الحطب البشري الذي لا ينتهي..
لا أستطيع أن أنسى، كيف كانت روحه توّاقة للمستقبل، وهب نفسه للمحتاجين، ترك في داخلنا ألف قصة، كان نشيد للحب، وقبلة لسلام، فقد كان رئيس لمبادرة عنوانها "سلام شباب"، رصيده في قلوب المحتاجين لا زال، وحدها تلك الأرصدة الذي لا ينتهي مخزونها، ولا ينفذ.
هكذا أتى العيد بوجهه الشاحب، بذاكرة لا تكاد تنسى حنينها للموتى.
83CA8F36-948E-4EA4-8B59-8FE6B49C1AC4
83CA8F36-948E-4EA4-8B59-8FE6B49C1AC4
علي محي الدين منصر (اليمن)
علي محي الدين منصر (اليمن)