لم أكن أعلم أن الهدايا التي سيقدمها لي يوماً الكاتب والمخرج المسرحي، غسان الجباعي، ستغير كثيراً في مجرى حياتي، إذ كان له فضل كبير عبر مجموعتيه القصصية وأشعاره، أن يطلعني مبكراً على العالم السفلي، الذي أمضى فيه زهاء 10 أعوام، نصفها في سجن صيدنايا الرهيب، والنصف الآخر في سجن تدمر المرعب.
وإذا كان قدر الكلمة أن تُحفظ في عقل كاتبها حتى تتاح له الحرية لتدوينها على الورق، فقد شغلتني حكايات أخرى، حول منحوتاته التي صنعها في معتقل رهيب، كيف استطاع أن يصنع جمالاً وسط كل تلك القباحة؟ وكيف استطاع أن يحميه لسنوات طوال؟
لعل الوقت هو الشيء الوحيد الذي يمتلكه المعتقل ويفيض عن حاجته "لا سيما في معتقلاتنا"، فهل كان الانشغال بالنحت سبيلاً لقتل الوقت داخل الزنازين؟
إن الانشغال بهذا العالم يأخذك من الحبس إلى فضاءات بلا حدود، تصنع فيها ما تشاء وكيفما تريد. يجعل أيام سجنك أقصر وأقل وطأة، وهي أفضل طريقة للسيطرة على الوقت. فالسنوات العشر التي قضيتها هناك، تمكنت، بواسطة النحت، من اختصارها إلى النصف أو أقل. البعض كان يشغل نفسه لقتل ذلك الوقت الطويل الرتيب، بلعب الورق أو الشطرنج، ثم القراءة بعد ذلك. لكن النحت، تحديداً، يمنحك ميزات أخرى كثيرة: فهو يجعلك تُخرج توترك الداخلي من خلال أناملك. تلك الأنامل التي لولاها ما وُجد الإنسان، يمكنها هنا أن تنقذك من الجنون. ثم إن النحت طريقة رائعة للبوح والتعبير والخلق، في مكان هُزم فيه التعبير، وانتصر الموت. إنه عملية تفتق للحياة في مواجهة الفناء، وشحذ للذاكرة في مواجهة النسيان. كما كنا نستخدم تلك المنحوتات، عند الضرورة، لإخراج بعض الرسائل الهامة خارج السجن..
كيف كنت تختار المنحوتات التي تنوي صنعها؟
لست أنا من يقرر أي منحوتة ستكون تلك القطع الخشبية، بل هي التي تفرض عليك موضوعها. لا خيار أمامك. هي التي تختارك، وليس أنت. أما مسامير الصحاحير والشرائط المعدنية التي تتواجد فيها عادة، فقد أصبحت أدوات نحت وحرق ممتازة. لكنا حصلنا فيما بعد على مبراة للأقلام، وسرعان ما تحولت إلى أداة أساسية ومحترمة للنحت. كان كيسي مليئاً دائماً بمختلف أنواع النوى والبذور. حتى بذور التفاح وحبات العدس القاسية، كنت أجمعها. أما بذور التمر فلونها يشبه لون العاج تماماً بعد قشرها. كنا نصنع منها "دبابيس" الشعر والفراشات البيضاء والحلق. وكنت أول من حفّ ثمرة دراق واكتشف أنها مليئة بالزخارف النباتية والزهور، ولا تحتاج إلا إلى تدخل بسيط، بواسطة الإبرة، وحفر أسماء من نحب في باطنها الأملس، وتصبح جاهزة.
ما الأدوات التي كنت تستخدمها؟ ومن أين حصلت عليها؟ لا سيما أن المعتقل ممنوع من امتلاك أداة حادة حتى لو كان دبوساً!
لا مجال في المعتقلات للترف. كل ما أنجزته الحضارة البشرية يرتد إلى البدائية، ويُختصر إلى عناصرها الأولى، التي لا يستطيع الإنسان العيش دونها. ولذلك كانت أدواتي بدائية جداً. فالأدوات الحادة ممنوعة، بما في ذلك المسامير. ولذلك استخدمت في البداية الحجر كأداة للنحت. كنت ألتقط الحجارة الصلبة المسننة من ساحة التنفس، وبسرية تامة أضعها في جيبي. وكانت أرض المهجع الإسمنتية، أداة مناسبة جداً لتسوية القطع الكبيرة وتلميعها، خاصة بذور الدراق الغنية بالزخارف. كما استخدمت الإبرة كأداة للنحت بعد تثبيتها في ساعد فرشاة أسنان قديمة. وكانت فرحتنا كبيرة بصحاحير الفاكهة التي كانوا يحضرونها من أجلنا. كانت أخشاب تلك الصناديق المهترئة، وخاصة الزوايا السميكة نسبياً، هي المادة الأساسية لأغلب منحوتاتي. ومن يدقق فيها يكتشف أماكن المسامير الصدئة التي تحايلت عليها، بشكل ما، لتصبح جزءاً من المنحوتة. كأن تصبح عيناً أو فما أو زراً، أو حلمة نهد لامرأة. كما لجأت إلى أسلوب الترصيع، أي لصق حبة كرز مثلاً فوق تلك الثقوب لإخفائها.
وماذا عن حراس الزنازين؟ كيف كان تعاملهم مع الأمر؟
في البداية كنا نعمل سراً بعيداً عن أنظارهم، لكن فيما بعد أخذ الحراس يجلبون لي قطع الخشب بأنفسهم، ويطلبون مني أن أصنع لهم الأساور والقلائد هدايا لنسائهم. وكنت الوحيد الذي مارس النحت على الخشب والحجر والعظام. أما بقية الزملاء فقد استخدموا نوى الزيتون والعجين وأوراق "الميغا"، لصناعة المسابح والقلائد والورود. لكن عدداً منهم صار يتقن التعامل مع حبة الدراق أفضل مني.
يبدو حضور المرأة قوياً في منحوتاتك.. أهو تجلٍ لحرمان قسري يخالف الطبيعة البشرية؟ أم أن للمرأة رمزية أخرى بعيداً عن الحرمان والغريزة؟
المرأة عملياً، كانت الغائب الحاضر دوماً في المعتقل، والسبب هو بكل بساطة تماهي المرأة بالحرية والجمال. كل ما صنعناه داخل الجدران كان بوحي منها. وسواء كانت زوجة، أو حبيبة، أو أماً أو أختاً أو صديقة، فتلك الأساور والقلائد و"الجزادين" ومنحوتات العجين والخشب والحجارة والعظام، كانت تصنع من أجلها. كنا ونحن ننكبّ على العمل دون كلل، لا نفكر إلا فيها، ولا نتواصل إلا معها. ليس بالمعنى المادي فقط، إنما بالمعنى الرمزي أولاً. وكان ذلك يمنحنا متعة لا توصف، ولذة يختلط فيها الشعور البدني بالعاطفي بالنفسي، ولا يشبه شيئاً أكثر من الشعور بلذة الحرية. وكان هذا التخاطر عن بعد، شكلاً من أشكال التحدي الذاتي، والتواطؤ الغامض، الذي يحقق التوازن المطلوب، بين الحلم المشتهى والواقع البغيض. كنا نؤكد من خلاله وجودنا وإنسانيتنا، وبقاءنا على العهد مع أحبتنا وذكرياتنا، وأملنا في الحرية مهما طال الزمن. وهل يحتاج الإنسان إلى دافع أقوى من هذه لصنع الجمال، في ذلك المكان البشع؟
تتصدر منحوتاتك مكتبك، حيث تقضي فيه جلّ وقتك، ورغم قيمتها الفنية والجمالية، أليس لها وجه آخر يذكرك بماض قبيح ومن الأفضل طيّه؟
طي صفحة الآلام ليس من شيم الكرام.. يجب أن تبقى ماثلة أمامنا كي نتذكر بشاعتهم والجمال الكامن فينا. قد نصفح لكن لا ننسى. يجب أن تكون عبرة للأجيال القادمة، وصرخة في وجه الظلم. إنها تجربة إنسانية ووطنية بامتياز. صحيح أنها قاسية، لكنها حقيقية. عندما أنظر إلى منحوتاتي اليوم، أشعر بالفخر والاعتزاز. ليس لأنها عاشت وستعيش أكثر من الاستبداد وسجونه، وستبقى شاهدةً على جرائمه، بل لأني تمكنت أيضاً، أن أبقى إنساناً في أسوأ الظروف. إنها اعتزاز بقدرة الإنسان على الصمود.
في منحوتاتك طيور عدة وأحدها يفرد جناحيه تأهباً للخروج من القفص إلى الحرية، هل وصلتني رسالتك التي تحملها أجنحة طيورك هذه؟
الطيور أقرب الكائنات إلى قلبي. ليس لأنها ترمز إلى الحرية فقط، بل لأنها ضعيفة ولطيفة. وقد كانت صناعتها سهلة جداً. كان يكفي أن تحصل على بذرة لوز لتكون جسداً لطائر، ثم تقوم بتثبيت جناحيه، بالشكل الذي تريد، من فلقتي بذرة مشمش أو خوخ أو جوز. ولا يبقى أمامك سوى تثبيت رأس الطائر من بذرة زيتون أو كرز، وإعطائه الهيئة التي تريد.
هل هذه المنحوتات هي كل ما صنعته في المعتقل أم أنك تركت فيه معظمها؟
كانوا يسمحون لنا أحيانا بإخراج منحوتاتنا. وقد أخرجت مئات القطع. لكن أغلبها تحطم للأسف، ولم يبق منها غير القليل. لدي صندوق كامل من الحطام، ولم أجد الوقت اللازم لترميمه، رغم مرور ربع قرن من الحرية.