21 نوفمبر 2024
فرار السوريين إلى اللامكان
كما كان متوقعاً قبل بدء المعركة المندلعة في إدلب، بدأت موجات هجرةٍ غير مسبوقةٍ منذ اندلاع الحرب في سورية. وبدأ الناس بالنزوح، حتى قبل أن تبدأ المعركة التي كان يتحسَّب لها الجميع، في تركيا والدول الغربية، وطبعاً أهالي إدلب والنازحون إليها، بسبب تبعاتها المتوقعة، والتي سرعان ما ظهرت. وفي حين سعت تركيا، الخائفة من موجات هجرةٍ جديدةٍ تصل إلى أراضيها، إلى وقاية المدينة من المعركة عبر اتفاقيتي سوتشي وأستانا، وعبر إقامة منطقةٍ عازلةٍ لإعادة اللاجئين إليها، إلا أن جهدها ضاع، وخاب أملها في الروس ضامني الاتفاقيتين. وأخذت فجأة تظهر مشكلة لاجئين جديدة، بدا المجتمع الدولي عاجزاً عن احتوائها، وأظهرت المآسي التي تخللتها مدى نكران هذا المجتمع مآسي السوريين التي تتكرر دوريّاً.
وكانت هذه المعركة بمثابة الكابوس الذي أرَّق أهالي المدينة، حتى قبل وقوعها بسنوات، بسبب كثافة السكان في المدينة، وبسبب كثرة التنظيمات العسكرية المعارضة للنظام، والتي تعمل في إدلب، وتتوزع تبعاتها بين هذا الفاعل الإقليمي وذاك، ما يجعل الصدام بينها قائماً فيزيد من عمق مأساة أهالي المدينة والنازحين، على السواء. ولكن الكابوس حلَّ قبل بدء المعارك، وبدأ الناس بهجرة المدينة وريفها ومخيمات النزوح حولها، منذ بداية ديسمبر/ كانون الثاني الماضي، حين عرفوا أن الجيش النظامي وروسيا يستعدّان للمعركة، ويحشدان قواتهما على تخوم المدينة. وفي شهرين لا أكثر، نزح حوالي نصف مليون من السكان، وازداد هذا العدد مع احتدام المعارك ليصل إلى 800 ألف نازح، بحسب إحصاءات المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
لجأ النازحون إلى العراء، على الحدود السورية التركية، وانتشروا في الجبال الجرداء وبين
البساتين، أملاً بألا تطاولهم نيران القذائف التي بدأت تنهال على المنطقة من شهرين. ولكن البرد الذي يأتي في هذه الفترة من السنة فاقم مصابهم، ولم تستطع خيامهم الهزيلة أن تحميهم من الأمطار أو الثلوج التي تراكمت فوقها، ولا من البرد الذي قتل عدداً منهم. ومن النازحين من افترش العراء، فلم يجد خيمةً تقيه المطر أو البرد أو حتى هجمات الحيوانات البرّية، ويصل عدد هؤلاء إلى 80 ألف نازح، بينما لجأ 20 ألفاً إلى الأشجار، ليبيتوا تحتها علَّها تؤمن لهم بعض الحماية. وقالت لجنة الإنقاذ الدولية، غير الحكومية، إن ستة أطفال ماتوا جرّاء الصقيع في الأيام الأخيرة، بينما وُجدت عائلةٌ بكاملها ميتةً بسبب البرد القارس الذي يضرب المنطقة.
كتبت إحدى الصحف العالمية أن حجم الأزمة الإنسانية صدم منظمات الإغاثة. ولكن ما صدم لجنة الإنقاذ الدولية أكثر أن هؤلاء النازحين بمجملهم ليس لديهم مكانٌ للنزوح إليه، وحيث امتلأ ما توفر من مدارس وأماكن عبادة، بل وحتى سجون، بأعدادٍ ضخمةٍ تزيد عن طاقتها الاستيعابية، بالنازحين، لم يتبقَّ للآخرين سوى "اللامكان" للجوء إليه. وتساءل نائب منسق الشؤون الإنسانية الإقليمي للأزمة السورية التابع للأمم المتحدة، مارك كتس: "إلى أين يتجه هذا العالم، إن لم يكن قادراً على تأمين حماية لثلاثة ملايين بشري يقطنون إدلب ومحاصرين بالحرب؟"، وذلك بعد أن وجَّه نداءاتٍ من أجل تحرُّك دولي بشأن الأزمة في سورية، إلا أن نداءاته لم تجد صدىً لدى أحد. وفي هذه الأجواء، ذكرت صحف غربية أن من الواضح أن العالم، والحكومات الغربية بالتحديد، قرّروا إيلاء المأساة الإنسانية في الشمال السوري الأذن الطرشاء لدوافع أنانية، في إشارةٍ إلى تخوفهم من أزمة لجوء جديدة إلى أوروبا.
وبدا واضحاً، منذ الأيام الأولى للمعركة، أنها ستسفر عن تفاهماتٍ جديدةٍ، وستذهب بتفاهماتٍ قديمةٍ بين اللاعبين الإقليميين حول سورية وحول إدلب تحديدا. كما من الممكن أن تغيِّر من خريطة المعارضة العاملة على الأرض؛ إذ يمكن أن يكون أول هذه التغيرات وأغربه، إعلان هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، حل نفسها في ذروة المعارك، فقد تواترت الأنباء عن حل الهيئة ذراعها المدني، تمهيداً لحل ذراعها العسكري، وستخير أعضاءها بين تسليم أسلحتهم الفردية أو الاحتفاظ بها والانضمام إلى الفصائل المسلحة الأخرى للمقاتلة تحت جناحها. إن صحّ ذلك، ربما تهدف الهيئة من الخطوة سحب ذريعة محاربة الإرهاب، المتمثل بالهيئة، من الجيش النظامي ومن القوات الروسية لتجنيب المدينة معركةً غير محسوبة العواقب. كما أن تجريد الفصائل المعارضة في إدلب من أسلحتها كان بنداً في اتفاق سوتشي، وتعهدت تركيا بتحقيق هذا المطلب في مقابل أن تمتنع قوات النظام والقوات الروسية عن شن هجومٍ على إدلب. وأدّى شن
الجيش النظامي السوري، مدعوماً بقوات روسية الهجوم على إدلب، إلى تدخل الجيش التركي لحماية المدنيين، وضمان سريان اتفاق سوتشي، لأن تركيا تخاف خرق الاتفاق، وتسَبُّب المعارك بموجة نزوحٍ، ربما بالملايين، ليست أنقرة في وضعٍ يسمح لها بالتعامل معها التعامل المطلوب.
وفي حين برَّرت الحكومة السورية هجومها على إدلب بأن اتفاق سوتشي الخاص بالمدينة لم يُطبق، وخصوصاً منه الشق الذي يتعلق بفتح الطرق الدولية التي تربط حلب بدمشق، بسبب استمرار سيطرة الفصائل العسكرية المعارضة على أقسامٍ منها في ريف المدينة، وتقييد حركة المرور عليها، تقول تركيا إن الهجوم الأخير يعدُّ خرقاً لهذا الاتفاق. ومن هنا برز الخلاف بين روسيا وتركيا، ما استدعى لقاءات عدة بين مسؤولي البلدين، للتوصل إلى تفاهماتٍ بدت صعبة، ومن ثم أدى إلى إجراء اتصالات هاتفية بين الرئيسين، الروسي بوتين والتركي أردوغان. وقد اشتَمَّت أميركا أن الخلاف بين الطرفين جديٌّ، وهو من الجدّية بحيث يمكنها التعويل عليه لدفع تركيا إلى التخلي عن التسلح بالأسلحة الروسية، وخصوصاً منها أنظمة "أس 400" للدفاع الجوي.
واضحٌ أن معركة إدلب الجارية لن تكون مثل غيرها من المعارك بين المعارضة المسلحة وقوات النظام والقوات الحليفة لها، من حيث تداعياتها على العلاقة بين المتدخلين في الحرب السورية، خصوصاً روسيا وتركيا، وأميركا وتركيا، وربما ستتسم العلاقة بينهم في المقبل من الأيام بسماتٍ تختلف عما قبلها. وواضحٌ أيضاً أن الغرب قرَّر أن يُغمض عينيه عن المأساة التي يعيشها المدنيون السوريون الذين نزحوا إلى المجهول. وهو بذلك لا يكون قد قرَّر النأي بنفسه عن هذا الصراع، اتقاءً لتبعاته عليه، بل يكون قد قرَّر أن ينأى عما يدّعيه من مناصره حقوق الإنسان أينما كان.
لجأ النازحون إلى العراء، على الحدود السورية التركية، وانتشروا في الجبال الجرداء وبين
كتبت إحدى الصحف العالمية أن حجم الأزمة الإنسانية صدم منظمات الإغاثة. ولكن ما صدم لجنة الإنقاذ الدولية أكثر أن هؤلاء النازحين بمجملهم ليس لديهم مكانٌ للنزوح إليه، وحيث امتلأ ما توفر من مدارس وأماكن عبادة، بل وحتى سجون، بأعدادٍ ضخمةٍ تزيد عن طاقتها الاستيعابية، بالنازحين، لم يتبقَّ للآخرين سوى "اللامكان" للجوء إليه. وتساءل نائب منسق الشؤون الإنسانية الإقليمي للأزمة السورية التابع للأمم المتحدة، مارك كتس: "إلى أين يتجه هذا العالم، إن لم يكن قادراً على تأمين حماية لثلاثة ملايين بشري يقطنون إدلب ومحاصرين بالحرب؟"، وذلك بعد أن وجَّه نداءاتٍ من أجل تحرُّك دولي بشأن الأزمة في سورية، إلا أن نداءاته لم تجد صدىً لدى أحد. وفي هذه الأجواء، ذكرت صحف غربية أن من الواضح أن العالم، والحكومات الغربية بالتحديد، قرّروا إيلاء المأساة الإنسانية في الشمال السوري الأذن الطرشاء لدوافع أنانية، في إشارةٍ إلى تخوفهم من أزمة لجوء جديدة إلى أوروبا.
وبدا واضحاً، منذ الأيام الأولى للمعركة، أنها ستسفر عن تفاهماتٍ جديدةٍ، وستذهب بتفاهماتٍ قديمةٍ بين اللاعبين الإقليميين حول سورية وحول إدلب تحديدا. كما من الممكن أن تغيِّر من خريطة المعارضة العاملة على الأرض؛ إذ يمكن أن يكون أول هذه التغيرات وأغربه، إعلان هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، حل نفسها في ذروة المعارك، فقد تواترت الأنباء عن حل الهيئة ذراعها المدني، تمهيداً لحل ذراعها العسكري، وستخير أعضاءها بين تسليم أسلحتهم الفردية أو الاحتفاظ بها والانضمام إلى الفصائل المسلحة الأخرى للمقاتلة تحت جناحها. إن صحّ ذلك، ربما تهدف الهيئة من الخطوة سحب ذريعة محاربة الإرهاب، المتمثل بالهيئة، من الجيش النظامي ومن القوات الروسية لتجنيب المدينة معركةً غير محسوبة العواقب. كما أن تجريد الفصائل المعارضة في إدلب من أسلحتها كان بنداً في اتفاق سوتشي، وتعهدت تركيا بتحقيق هذا المطلب في مقابل أن تمتنع قوات النظام والقوات الروسية عن شن هجومٍ على إدلب. وأدّى شن
وفي حين برَّرت الحكومة السورية هجومها على إدلب بأن اتفاق سوتشي الخاص بالمدينة لم يُطبق، وخصوصاً منه الشق الذي يتعلق بفتح الطرق الدولية التي تربط حلب بدمشق، بسبب استمرار سيطرة الفصائل العسكرية المعارضة على أقسامٍ منها في ريف المدينة، وتقييد حركة المرور عليها، تقول تركيا إن الهجوم الأخير يعدُّ خرقاً لهذا الاتفاق. ومن هنا برز الخلاف بين روسيا وتركيا، ما استدعى لقاءات عدة بين مسؤولي البلدين، للتوصل إلى تفاهماتٍ بدت صعبة، ومن ثم أدى إلى إجراء اتصالات هاتفية بين الرئيسين، الروسي بوتين والتركي أردوغان. وقد اشتَمَّت أميركا أن الخلاف بين الطرفين جديٌّ، وهو من الجدّية بحيث يمكنها التعويل عليه لدفع تركيا إلى التخلي عن التسلح بالأسلحة الروسية، وخصوصاً منها أنظمة "أس 400" للدفاع الجوي.
واضحٌ أن معركة إدلب الجارية لن تكون مثل غيرها من المعارك بين المعارضة المسلحة وقوات النظام والقوات الحليفة لها، من حيث تداعياتها على العلاقة بين المتدخلين في الحرب السورية، خصوصاً روسيا وتركيا، وأميركا وتركيا، وربما ستتسم العلاقة بينهم في المقبل من الأيام بسماتٍ تختلف عما قبلها. وواضحٌ أيضاً أن الغرب قرَّر أن يُغمض عينيه عن المأساة التي يعيشها المدنيون السوريون الذين نزحوا إلى المجهول. وهو بذلك لا يكون قد قرَّر النأي بنفسه عن هذا الصراع، اتقاءً لتبعاته عليه، بل يكون قد قرَّر أن ينأى عما يدّعيه من مناصره حقوق الإنسان أينما كان.