الكاتب والناشر الفرنسي فرانسوا ماسبيرو، المعروف بدفاعه عن حقوق الشعوب المضطهَدة، ومؤسس إحدى أعرق دور النشر، رحل السبت الماضي بعد تاريخ حافل بالنضال الفكري والثقافي.
ولد ماسبيرو في باريس عام 1932، وترعرع بين الكتب والمؤلفات، في ظل عائلة ذات إرث ثقافي ونضالي، إذ إنه حفيد عالم المصريات الشهير غاستون ماسبيرو، الذي يطلق اسمه على مبنى التلفزيون المصري في القاهرة. أما والده، العالم المختص بالصينيات، فقد لقي حتفه في أحد مخيمات التعذيب النازية إبان الحرب العالمية الثانية.
على الرغم من عدم تلقيه لأي تعليمٍ جامعيّ، برز اسم ماسبيرو في النضال الفكري والثقافي لقوى اليسار الأوروبي. أسس عام 1957 مكتبة حملت اسمه، ما لبث أن طوّرها، بعد عامين، إلى دار اهتمت بنشر الفكر المناهض للكولونيالية الجديدة. ركّزت "دار ماسبيرو" في إصداراتها على التحديات التي تواجه دول العالم الثالث، خصوصاً في ما يتعلّق بمقاومة الاستعمار والعنصرية، وأصبحت جرّاء ذلك مكان تجمعٍ للكتّاب والمفكرين اليساريين في أوروبا، ونقطة جذب للطلاب والأكاديميين، بوصفها مركزاَ لحركة الاحتجاج اليسارية بين 1960 و1970.
حين سئل عن سبب اختياره لمهنة النشر، أجاب ماسبيرو بأن الحرب هي السبب أولاً وأخيراً. كان لافتاً تركيزه على الاحتلال الفرنسي للجزائر، هو الذي كان من أشد الأصوات الثقافية المناهضة له. فقد نشر ضمن هذا السياق شهاداتٍ عدة عن انتهاكات الجيش الفرنسي وممارساته القمعية والعنصرية ضد الشعب الجزائري، الأمر الذي جعله عرضةً للملاحقة القانونية، وحتى الاعتداء أحياناً، وأدى إلى منع الرقابة الفرنسية العديد من الكتب الصادرة عن داره.
لم تقتصر مساهماته الفكرية على النشر فقط، إذ عمل على ترجمة العديد من المؤلفات الأدبية لأسماء مثل جوزيف كونراد، وجون ريد، وإدواردو ميندوزا. أما دار النشر التي أسسها، فقد تولّت إصدار ما يزيد عن 1350 عنواناً في الفكر والأدب والسياسة. ولعل أبرزها كتاب "معذّبو الأرض" لفرانز فانون، إلى جانب أعمال لغيفارا، ومصطفى الأشرف، وناظم حكمت وكثيرين غيرهم.
تفرّغ ماسبيرو للكتابة بعد أن أجبره الإفلاس على بيع دار النشر عام 1982، فكتب خلال عشرين عاماً ما يقارب خمسة عشر مؤلفاً أدبياً، بين بحوث وروايات من بينها "ابتسامة القط" (1984) و"شجرة التين" (1988) و"زمن الطليان" (1994) و"الشاطئ الأسود" (1995). وعمل أيضاً صحافياً لـ"راديو فرنسا" وصحيفة "لوموند"، وشارك في تغطية أخبار الجزائر وغزة.
لم يتقاعد طفل الحروب (كما أحبّ ماسبيرو تسمية نفسه) أو يتوقف عن نشاطه الفكري، على الرغم من تقدّمه في السن وحالته الصحية. بقي مخلصاَ للقضايا التي دعمها حتى سنواته الأخيرة، فكان من آخر نشاطاته المشاركة، إلى جانب عدد من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين، في النداء الموجّه للحكومة الفرنسية عام 2011 للاعتراف رسمياً بقتل مئات الجزائريين العزّل عام 1961.