08 نوفمبر 2024
في ذكرى عرفات
رحل الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، قبل أربعة عشر عاما، في أحد مستشفيات باريس، بعد أن ساءت حالته الصحية بشكل مفاجئ. وجاءت وفاته ضمن سياق فلسطيني وإقليمي دقيق، اتسم بفشل مفاوضات "كامب ديفيد"، واندلاع انتفاضة الأقصى، وتغوّل قوات الاحتلال في جرائمها الوحشية بحق الفلسطينيين، وتبلور قرارٍ دولي وعربي ''غير معلن'' بضرورة عزله، بعد رفضه الانصياع للإملاءات الإسرائيلية والأميركية، الأمر الذي جعل وفاته غير الطبيعية تبدو كأنها محصلة لتقاطع إرادات فلسطينية وعربية وإسرائيلية وأميركية رأت أن الرجل بات ''ورقة محروقة''، فوجب عزله سياسيا في أفق التخلص منه، والبحث عن قيادةٍ فلسطينيةٍ بديلة ترضى بهذه الإملاءات، وتملك القدرة على تسويقها.
وبصرف النظر عما يمكن أن يُثار من نقاش بشأن إدارته الملف الفلسطيني، طوال العقود التي أعقبت هزيمة يونيو/ حزيران 67، لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه عرفات في الحفاظ على حد أدنى من التوافق داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، بمختلف فصائلها.
حاول عرفات أن يستعيد بالسياسة ما أخفق فيه السلاح العربي والفلسطيني، وكانت النتيجة اتفاق أوسلو الذي وقعه مع إسرائيل برعاية أميركية سنة 1993. بعد ذلك راهن على السياسة، أيضا، لتحويل السلطة الوطنية التي خرجت من رحم هذا الاتفاق إلى دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس. وكان مقتنعا بأن لا خيار أمامه إلا التفاوض مع إسرائيل، بسبب الاختلال الواضح في ميزان القوى لصالح الأخيرة.
أدرك عرفات، في سنواته الأخيرة، أن إسرائيل لا يمكن أن تكون شريكا في إقامة سلام عادل وشامل، بسبب عقيدتها السياسية والعسكرية التي لا ترى في الفلسطينيين إلا كابوسا يجب التخلص منه، مهما كلف الأمر. فطوال السنوات التي أعقبت اتفاق أوسلو، لم تتوقف عن سياستها العنصرية القائمة على الاغتيالات والاعتقالات، والاجتياحات التي نفّذتها قواتها داخل مناطق السلطة الفلسطينية، ناهيك بالتوسّع الممنهج في المستوطنات، وتهويد القدس، ورفض الإفراج عن الأسرى، هذا في وقتٍ كان عرفات ينتظر أن يحمل النصف الثاني من التسعينات مؤشّراتٍ عملية في اتجاه تطبيق الحل النهائي الذي تضمّنه الاتفاق. ولم تكن مفاوضات كامب ديفيد سنة 2000 إلا محاولة إسرائيلية لترسيم هذا الواقع باتفاق آخر مكتوب، يوقّع عليه عرفات، ويُفضي إلى تسويةٍ تقفز على قرارات الشرعية الدولية، وخصوصا في ما يتعلق بالانسحاب إلى حدود 67 وعودة اللاجئين.
ولا شك أن تعثر هذه المفاوضات، في ظل انحياز الإدارة الأميركية لإسرائيل، جعل أبا عمار يبحث عن نقطة توازن جديدة، وهو ما تحقق من خلال الانتفاضة الثانية التي أعادت التوهج للقضية الفلسطينية داخل محيطها الشعبي العربي. كان ذلك سمةً أساسيةً ميزت إدارةَ عرفات تحولات هذه القضية، فكان انحيازه لخيار المفاوضات يكاد يتوازى مع حرصه على عدم تفكيك أسس العمل الشعبي الفلسطيني، وتجديد دينامياته التنظيمية والعسكرية، كلما اقتضت الضرورة ذلك. وهو ما أدركته إسرائيل والولايات المتحدة جيدا، بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، فالسنوات التي قضاها على رأس السلطة الوطنية لم تؤثر كثيرا على خبرته الميدانية.
ومن مفارقاتٍ دالةٍ أنه ما كان لإسرائيل أن تنجح في محاصرة عرفات، في مقر إقامته في رام الله، واغتياله، من دون مساعدة مراكز قوى ونفوذٍ معلومةٍ داخل السلطة، وهي المراكز التي أسهم هو نفسه في تشكيلها وتغذيتها كنوع من التوازن داخل الساحة الفلسطينية أمام تعاظم قوة حركة حماس.
ترك رحيل عرفات فراغا واضحا على الساحة الفلسطينية، وساهم في حدوث حالة انسداد غير مسبوقة، تجلت أساسا في الانقسام بين حركتي فتح وحماس، وغياب رؤيةٍ تنظيميةٍ وسياسيةٍ متوازنةٍ تعيد بناء الوطنية الفلسطينية على أسس جديدة، فالتطبيع لم يعد شأنا سِريا يقتصر على لقاءاتٍ تجمع قادة ومسؤولين عربا بنظرائهم الإسرائيليين في المنتجعات الغربية البعيدة، بل بات سياسةً معلنةً لأكثر من نظام عربي، وما ترويجُ ما يعرف بصفقة القرن إلا العنوان الدالّ لهذه السياسة التي تستهدف التخلص من ''العبء'' الفلسطيني إلى الأبد.
وبصرف النظر عما يمكن أن يُثار من نقاش بشأن إدارته الملف الفلسطيني، طوال العقود التي أعقبت هزيمة يونيو/ حزيران 67، لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه عرفات في الحفاظ على حد أدنى من التوافق داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، بمختلف فصائلها.
حاول عرفات أن يستعيد بالسياسة ما أخفق فيه السلاح العربي والفلسطيني، وكانت النتيجة اتفاق أوسلو الذي وقعه مع إسرائيل برعاية أميركية سنة 1993. بعد ذلك راهن على السياسة، أيضا، لتحويل السلطة الوطنية التي خرجت من رحم هذا الاتفاق إلى دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس. وكان مقتنعا بأن لا خيار أمامه إلا التفاوض مع إسرائيل، بسبب الاختلال الواضح في ميزان القوى لصالح الأخيرة.
أدرك عرفات، في سنواته الأخيرة، أن إسرائيل لا يمكن أن تكون شريكا في إقامة سلام عادل وشامل، بسبب عقيدتها السياسية والعسكرية التي لا ترى في الفلسطينيين إلا كابوسا يجب التخلص منه، مهما كلف الأمر. فطوال السنوات التي أعقبت اتفاق أوسلو، لم تتوقف عن سياستها العنصرية القائمة على الاغتيالات والاعتقالات، والاجتياحات التي نفّذتها قواتها داخل مناطق السلطة الفلسطينية، ناهيك بالتوسّع الممنهج في المستوطنات، وتهويد القدس، ورفض الإفراج عن الأسرى، هذا في وقتٍ كان عرفات ينتظر أن يحمل النصف الثاني من التسعينات مؤشّراتٍ عملية في اتجاه تطبيق الحل النهائي الذي تضمّنه الاتفاق. ولم تكن مفاوضات كامب ديفيد سنة 2000 إلا محاولة إسرائيلية لترسيم هذا الواقع باتفاق آخر مكتوب، يوقّع عليه عرفات، ويُفضي إلى تسويةٍ تقفز على قرارات الشرعية الدولية، وخصوصا في ما يتعلق بالانسحاب إلى حدود 67 وعودة اللاجئين.
ولا شك أن تعثر هذه المفاوضات، في ظل انحياز الإدارة الأميركية لإسرائيل، جعل أبا عمار يبحث عن نقطة توازن جديدة، وهو ما تحقق من خلال الانتفاضة الثانية التي أعادت التوهج للقضية الفلسطينية داخل محيطها الشعبي العربي. كان ذلك سمةً أساسيةً ميزت إدارةَ عرفات تحولات هذه القضية، فكان انحيازه لخيار المفاوضات يكاد يتوازى مع حرصه على عدم تفكيك أسس العمل الشعبي الفلسطيني، وتجديد دينامياته التنظيمية والعسكرية، كلما اقتضت الضرورة ذلك. وهو ما أدركته إسرائيل والولايات المتحدة جيدا، بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، فالسنوات التي قضاها على رأس السلطة الوطنية لم تؤثر كثيرا على خبرته الميدانية.
ومن مفارقاتٍ دالةٍ أنه ما كان لإسرائيل أن تنجح في محاصرة عرفات، في مقر إقامته في رام الله، واغتياله، من دون مساعدة مراكز قوى ونفوذٍ معلومةٍ داخل السلطة، وهي المراكز التي أسهم هو نفسه في تشكيلها وتغذيتها كنوع من التوازن داخل الساحة الفلسطينية أمام تعاظم قوة حركة حماس.
ترك رحيل عرفات فراغا واضحا على الساحة الفلسطينية، وساهم في حدوث حالة انسداد غير مسبوقة، تجلت أساسا في الانقسام بين حركتي فتح وحماس، وغياب رؤيةٍ تنظيميةٍ وسياسيةٍ متوازنةٍ تعيد بناء الوطنية الفلسطينية على أسس جديدة، فالتطبيع لم يعد شأنا سِريا يقتصر على لقاءاتٍ تجمع قادة ومسؤولين عربا بنظرائهم الإسرائيليين في المنتجعات الغربية البعيدة، بل بات سياسةً معلنةً لأكثر من نظام عربي، وما ترويجُ ما يعرف بصفقة القرن إلا العنوان الدالّ لهذه السياسة التي تستهدف التخلص من ''العبء'' الفلسطيني إلى الأبد.