وضعت السمّاعات في أذنيّ وشغّلت الموسيقى. زجاجة مياه في يدي، وفي جيبي قليل من النقود تسعفني للاستعانة بسيارةِ أجرة إذا ما أحسست بالتعب. بدأت الهرولة بمحاذاة المباني القديمة لأصل إلى الشارع الرئيسي، وأبدأ بتسريع خطواتي. الشمس لم تطلّ بعد، لكنّ نوراً بدأ يبزغ بلونه الأرجوانيّ.
كالعادة، سيارات الأجرة لا تعيرني أيّ اهتمام. عمّال النظافة يفرغون الحاويات التي امتلأت على آخرها من رواسب ليل أمس. الأفران ومحطّات الوقود بدأت نهارها قبلي. وفي طريقي بعض الشبّان عائدون من أعمالهم، وبعض آخر ذاهب إلى عمله. كلاب تتنزه مع أصحابها، وشرطيّ المرور لم يتسلم دوريته بعد. تعوّدت أن أراه في طريق عودتي. أنوار الشارع ما زالت مضاءة.
أعبر التقاطع الفاصل بين محلّة السوديكو ووسط بيروت. عمّال البناء يتوجّهون إلى "الوسط". المطاعم ترمي نفاياتها بعد ليلٍ طويل، فيما يبدو التعب جلياً على وجوه العاملين فيها. إلى يميني صفّ أبنية لم تهجرها الحرب بعد، يغطّيها الأخضر، كأنها تحاول التستر على أفعال غيرها.
صرت قرب الجسر المطلّ على وسط خالٍ إلَّا من المباني الفخمة وعمّال الحراسة ونصب الشهداء. لا يربطني بهذا "الوسط" أيّ شيء، هو مجرّد محطة عبور إلى أماكن أخرى.
على الكورنيش البحري، آخذ نفساً عميقاً وأسرّع خطواتي أكثر. خيالي يسبقني وضوء الشمس وحرارتها يبدآن في ملاحقتي. هناك من وصل قبلي، أفرادٌ ومجموعات، منهم من يمارس الرياضة، والبعض يرتشف القهوة قبل يوم عمل طويل، وآخرون ينهون سهرتهم على أنغام موج البحر.
البحر هو هو منذ معرفتي به. الرصيف تبدّل مرّاتٍ عدّة. بمحاذاته كانت سيارات الـ"إكسبرس" لبيع القهوة والمرطبات، لكنّها مُنعت لسببٍ ما زلت أجهله. ارتفعت عدّة مبانٍ مقابل الواجهة البحرية فحجبت معها البيوت والمباني القديمة. كلّ ذلك لا يهم. مرّ أكثر من عقدين على علاقتي بهذا الكورنيش، ناسه لم يتغيّروا، بينهم أشخاصٌ لا أعرفهم سوى بابتسامة أو بسلام خافت لدى المرور قربهم. لم أتكلّم مع أحدهم إلّا في ما ندر. أتفحّص هاتفي الخلوي في جيبي، أسحبه والتقط بعض الصور، أو أغيّر الموسيقى، وأرسل بعض الرسائل الصباحيّة.
أكمل هرولتي بخطواتٍ ثابتة حتى آخر الكورنيش. أشرب الماء بين الحين والآخر، وأعود أدراجي تاركاً خيالي خلفي يلاحقني، والشمس تلفح وجهي.. لن أعود بسيارة الأجرة، أريد أن أرى الواجهة كأنّني أراها للمرة الأخيرة، ربّما يتغيّر شكلها بعد أن يجتاحها الإسمنت، كما فعل خلال العقدين الماضيين.. سأصوّر الكورنيش من كلّ الاتجاهات قبل أن يُصبح مجرّد ذكرى.
أعلم مسبقاً أنّه سيتغيّر، لكنّي سأكّرر هوايتي غداً.
اقــرأ أيضاً
كالعادة، سيارات الأجرة لا تعيرني أيّ اهتمام. عمّال النظافة يفرغون الحاويات التي امتلأت على آخرها من رواسب ليل أمس. الأفران ومحطّات الوقود بدأت نهارها قبلي. وفي طريقي بعض الشبّان عائدون من أعمالهم، وبعض آخر ذاهب إلى عمله. كلاب تتنزه مع أصحابها، وشرطيّ المرور لم يتسلم دوريته بعد. تعوّدت أن أراه في طريق عودتي. أنوار الشارع ما زالت مضاءة.
أعبر التقاطع الفاصل بين محلّة السوديكو ووسط بيروت. عمّال البناء يتوجّهون إلى "الوسط". المطاعم ترمي نفاياتها بعد ليلٍ طويل، فيما يبدو التعب جلياً على وجوه العاملين فيها. إلى يميني صفّ أبنية لم تهجرها الحرب بعد، يغطّيها الأخضر، كأنها تحاول التستر على أفعال غيرها.
صرت قرب الجسر المطلّ على وسط خالٍ إلَّا من المباني الفخمة وعمّال الحراسة ونصب الشهداء. لا يربطني بهذا "الوسط" أيّ شيء، هو مجرّد محطة عبور إلى أماكن أخرى.
على الكورنيش البحري، آخذ نفساً عميقاً وأسرّع خطواتي أكثر. خيالي يسبقني وضوء الشمس وحرارتها يبدآن في ملاحقتي. هناك من وصل قبلي، أفرادٌ ومجموعات، منهم من يمارس الرياضة، والبعض يرتشف القهوة قبل يوم عمل طويل، وآخرون ينهون سهرتهم على أنغام موج البحر.
البحر هو هو منذ معرفتي به. الرصيف تبدّل مرّاتٍ عدّة. بمحاذاته كانت سيارات الـ"إكسبرس" لبيع القهوة والمرطبات، لكنّها مُنعت لسببٍ ما زلت أجهله. ارتفعت عدّة مبانٍ مقابل الواجهة البحرية فحجبت معها البيوت والمباني القديمة. كلّ ذلك لا يهم. مرّ أكثر من عقدين على علاقتي بهذا الكورنيش، ناسه لم يتغيّروا، بينهم أشخاصٌ لا أعرفهم سوى بابتسامة أو بسلام خافت لدى المرور قربهم. لم أتكلّم مع أحدهم إلّا في ما ندر. أتفحّص هاتفي الخلوي في جيبي، أسحبه والتقط بعض الصور، أو أغيّر الموسيقى، وأرسل بعض الرسائل الصباحيّة.
أكمل هرولتي بخطواتٍ ثابتة حتى آخر الكورنيش. أشرب الماء بين الحين والآخر، وأعود أدراجي تاركاً خيالي خلفي يلاحقني، والشمس تلفح وجهي.. لن أعود بسيارة الأجرة، أريد أن أرى الواجهة كأنّني أراها للمرة الأخيرة، ربّما يتغيّر شكلها بعد أن يجتاحها الإسمنت، كما فعل خلال العقدين الماضيين.. سأصوّر الكورنيش من كلّ الاتجاهات قبل أن يُصبح مجرّد ذكرى.
أعلم مسبقاً أنّه سيتغيّر، لكنّي سأكّرر هوايتي غداً.