الشاعر الذي صعد على الدراجة الهوائية وتوجّه في نزهة صَوب الأرياف كي يتأمّل الأشجار ويتحدث إلى أختهِ الحصاة، احتشدَ حولهُ صبية وأشقياء، ما إن رأوا موكبه حيث الدراجة تنثر وراءها الغبار والكلمات، حتى راحوا يطاردونه في الحقول ووراءَ الأسوار. انتظروا أن يخرج من حقيبتهِ الجلدية بلالين ودمى، إلا أنّه أخرج قصائد وكلمات عن حرب يجهلونها، وعن نساء يجهلون رائحتهن.
ما إن صعد الشاعر واحدة من التلال الترابية، كاد يوشك على إنشاد واحدة من التراتيل التي راج أن يطلبوها منهُ في المدن البعيدة، عن ذلك الحب الذي لم يسعه سوى أن ينقاد إليه، ذلك الحب الوضّاء الذي دفعه إلى اللحاق بالتي فتنتهُ، خمّنوا أنّها الريح وخمّنوا أنّها طيور السمّن وخمّنوا أنّها الشمس التي أشرقت على البيادر. ولم يكن في وسع الشاعر سوى أن تنجبهُ، تلك الطاقة المجهولة التي جُبلت بالعاطفة وفتنت بالغد.
لكن ما إن صعد على التل الترابي، حتى شدّه واحد من الصبية من مئزره، ساندهُ آخر وأنزلوه عن منبرهِ المرتجل في الطبيعة، بين العيدان والطين، ثمّ راح صبية آخرون يشدّون الصبيين اللذين أمسكا مئزر الشاعر، وتوجهوا، جميعًا، وهو وراءهم إلى الطريق. ومن الطريق أخذوه معهم إلى ساحة القرية، اجتمع حوله مجددًا حشدٌ آخر من الصبية والأشقياء.
نظر من حولهِ، يبحثُ عن آسرته، الأثيرة بين البنات؛ قالوا إنّها جاءت مع الحرية، وقالوا إنّها شجرة النخيل وسط واحة السراب. إلا أنّ الشاعر، جمّع عدة أحجار، واعتبرها منبرًا، صعد إليهِ.
وما إن صعد الأحجار، كاد يوشك على إنشاد واحدة من التراتيل التي راج أن يطلبوها منه في المدن البعيدة عن ذلك الحب الذي لم يسعه سوى أن ينقاد إليهِ، ذلك الحب، الذي، مثل إلهٍ؛ يُعرَفُ بصفاتهِ، ولا يمكن لأحدٍ أن يقع عليهِ. الحبّ الذي يراه الصيّاد عبر بارودة "الجفت" ويراه الصبي في مرض أستاذهِ.
الحبّ الشرير الذي يتعدّى الرغبة، إلى تخريبها، ويتعدّى الشوق إلى إهمالهِ. ما إن صعد الشاعر الأحجار، حتى لمحَ مصطبة قريبة لمنزل مهجور، نزل عن الأحجار، وراح من على المصطبة، يفكر بإنشاد تلك الترتيلة التي بات الجميع في انتظارها. جاءت الفتيات أخوات الفتيان، تحول الجميع إلى جمهور واسع، وقد عبر الحشدُ رجالٌ ذاهبون إلى أعمالهم ونساءٌ خرجن جراء الصياح الذي يشجّع الشاعر على بدء الترتيلة العجيبة للحب. إلا أنّ الشاعر راح ينتظر كلّما جاء أحدهم، قدوم آخر، حتى امتلأت الساحة. اعتقدوه بائعًا متجولًا، سوى أنّ حقيبته الجلدية كانت فارغة من الأمشاط البلاستيكية وملاقط الغسيل وصبغات الشعر الرديئة.
كانت خالية من الدعوات إلى الله أو الأوطان، خالية من الآمال... فقط، كانت مليئة بالقصائد عن الفاتنة التي فتنت فؤاد الشاعر، وراح بين القرى يناديها، جمع إليه بشرًا كثيرين بين بلدان عبَرَها، باحثًا عن الجوهرة.
الناس من حوله. يهمّ من على المصطبة بإنشاد ترتيلة عن حبّه الكبير، سوى أنّ الكلمات تتكسّر عن شفتيهِ، وتسقط بين الحشد، ليكنسوها بأرجلهم. تخرج كلمات وتتكسّر عن شفتيهِ، ليكنسوها، قبل أن ينفضّوا من حولهِ، وقد أنكروا سطوته عليهم، وراحوا يغادرونه واحدًا واحدًا، أمسكهُ من بقي، من مئزرهِ. وقد سالت من بين شفتيهِ صيغة رجاء أخيرة، أن يقيموا منبرًا حقيقيًا يُلقي من عليهِ، كلمات حقيقية عن أناس حقيقيين. أخذتهم الشفقة بهِ، أمسكوه من مئزرهِ، أوصلوه إلى المقبرة المشرعة على إطلالة أخّاذة، وهناك؛ أنشد الشاعر قصائده على الموتى.
* كاتب من سورية