يعود تاريخ القطار السياحي (الجرذون الأحمر) إلى بداية القرن العشرين، وكان هدية من الدولة الفرنسية عام 1945 إلى "باي" تونس الأمين باي (1943 إلى 1957)، كما يقول طارق الديناري، المسؤول عن الحجوزات على متن القطار لوكالة الأناضول.
و"الباي" كان ممثل الدولة العثمانية في تونس، قبل أن يستقل عنها. وقطار الجرذون (السحلية) كان مخصصاً في ما مضى لتنقلات "الباي" وحاشيته من وسط العاصمة تونس إلى ضواحيها.
وكلمة "باي" كانت تعني رئيس عشيرة، ثمّ أصبحت تعني مسؤول مقاطعة عثمانياً، وتعني كذلك رتبة عسكرية، و"البايات" في تونس كانوا ولاة عثمانيين، وكان أول "باي" هو من البايات المراديين الذين حكموا تونس من 1628 إلى 1702 وهو مراد الأول. أما البايات
الحسينيين فقد كان لهم استقلال نسبي عن الخلافة العثمانية وأولهم حسين بن علي (1705- 1735) وآخرهم الأمين باي (1943-1957) مع إعلان الجمهورية بعد استقلال تونس.
ويتكون قطار الجرذون من أربع عربات للمسافرين وعربتين للأمتعة، وما يفسد جمالية هذا القطار حالياً، هو القاطرة التي تجره، إذ إنها مصنعة حديثاً مقارنة بتاريخ صنع القطار عام 1911، إذ تعذر إصلاح القاطرة القديمة.
الكثير من البلدان، بينها جنوب أفريقيا، والمكسيك، وأستراليا، وكندا، وجدت في القطارات الواجهة الترويجية الأولى لاستقطاب السائحين عبر تنظيم رحلات سياحية لاستكشاف جمال الريف وتضاريس الجبال.
ومنذ سنوات، حاولت السلطات التونسية استثمار قطار "الباي"، المسمى بـ "الجرذون الأحمر"، للترويج للسياحة الداخلية، بعد أن بقي مهملاً لسنوات.
ويتردد أن أول رئيس لتونس بعد الاستقلال، الحبيب بورقيبة (1957 - 1987) الذي عزل "الباي" وأسس نظاماً جمهورياً، كان وراء هذا الإهمال لينسى سكان العاصمة تاريخ "البايات".
ومنذ قرابة 25 عاماً، قامت إحدى الشركات باستثمار هذا القطار عبر المسلك السياحي، الرابط بين جبال الثالجة، وهي جبال جرداء تشقها الأنفاق التي حفرتها فرنسا لتسهيل مرور قطارات نقل الفوسفات، ومدينة المتلوي، كبرى مدن الحوض المنجمي في محافظة قفصة جنوبي تونس.
الرحلة على متن "الجرذون الأحمر" تستمرّ إلى قرابة الساعتين ونصف الساعة ذهاباً وإياباً، تتخللها وقفات قصيرة يستكشف فيها السائح جمالية المكان.
"شارلين" (35 سنة) سائحة من الصين كانت ضمن مسافرين على متن رحلة انطلقت في حدود العاشرة والنصف تقريباً من صباح الجمعة الماضي، تقول لوكالة الأناضول: "هذا المكان يختلف عن الأماكن التي سبق وأن زرتها، والرحلة عبر هذا القطار جميلة جداً، وبالتأكيد لن تكون هذه هي الزيارة الأخيرة، وسأعمل على توثيقها".
بعد الثورة التونسية التي أطاحت بالرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي (1987- 2011) يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، عرفت رحلات "الجرذون الأحمر" اضطراباً في المواعيد.
وفي بعض الأحيان توقفت هذه الرحلات نهائياً جراء التحركات الاحتجاجية التي تشهدها محافظة قفصة، فغالباً ما يعمد أبناء المدينة إلى منع القطار من السفر، خاصة إذا كان على متنه أجانب، لتعمل السلطة على التدخل الفوري للبحث عن حلول لما يعانيه المحتجون من أزمات.
وحين أطلق قطار الباي صيحته الأخيرة معلناً عن انطلاق الرحلة، تسارع الركاب لاكتشاف المجهول، فعند انطلاق الرحلة لا شيء يوحي بأن هذا المسلك الذي يمر بين الأحياء الفقيرة لمدينة المتلوي سيوصلهم إلى المنتزهات الجبلية.
ومع الموسيقى المنبعثة، يخيّل لمن يعبر التواءات مرتفعات الثلج أنه في جبال "كولورادو" الأميركية. وعند أول نفق يحبس المسافرون أنفاسهم، ويعم الظلام المكان، ويبقى الجميع في انتظار بصيص نور، لتعود إليهم الحياة.
جمال المناطق الطبيعية والأنفاق الجبلية التي يشاهدها المسافر تختفي فجأة حين تتحول مياه العيون الجارية إلى مياه ملوثة؛ بسبب الشوائب والمياه التي تستعملها شركة فوسفات قفصة في أحد مقاطع الإنتاج المحاذي لمحطة القطار النهائية في جبال الثالجة.
وتستوعب رحلة القطار ما بين 150 و200 راكب، لكن عادة لا تضم رحلة القطار سوى عدد ما بين 60 و70 راكباً، وتنتظم رحلتان أسبوعياً يومي الثلاثاء والجمعة.
عبير صميدة، (28 سنة) وهي طالبة شاركت في إحدى رحلات القطار، وتبلغ سعر تذكرته 15 ديناراً تونسياً (نحو 7,5 دولارات أميركية) تقول لوكالة الأناضول: "شيء مشرّف أن نجد مثل هذه الرحلات في تونس، ولكن كان بالإمكان استغلالها بشكل جيّد أكثر لتشجيع الزائر على العودة".
ومنذ سنوات، تعمل وزارة السياحة على تنويع المنتجات والخدمات السياحية، وأصبحت الرحلة عبر القطار السياحي بنداً ثابتاً تدرجه الوكالات السياحية في برامجها، فقد صار القطار يستهوي أعداداً كبيرة من السياح، وسط دعوات إلى إعادة تهيئة هذا المسلك، وتوسعته ليشمل مدن الحوض المنجمي من أجل استكشاف المواقع التاريخية التي تزخر بها تلك المنطقة.