للوهلة الأولى، يعتقد زائر مدينة وهران غربي الجزائر، وهو يقترب من ساحة عمومية كبيرة وسط المدينة، أنه يقف أمام كنيسة شاهقة لا تجدها إلا في قصص القرون الوسطى، شبيهة إلى حدٍ ما بكاتدرائية نوتردام التي تحدّث عنها فيكتور هوغو في روايته.
تتوسّط كاتدرائية وهران، شارعي عبان رمضان وحمو بوتليليس المؤدّيين إلى الكورنيش المشهور في المدينة، تتراءى للناظرين من بعيد نظرًا لعلو صرحها، وتلفت الانتباه بهندستها الفريدة من نوعها، غير أن لا شيء يوحي بأن هذا المبنى تحوّل إلى مكتبة اليوم، فرنين أجراسها ما زال يتهادى من جدرانها أو هكذا يُخيّل للناظر إليها.
البحث عن مكتبة وهران ليس صعبًا، فبمجرد السؤال عنها، تكتشف أنّ الجميع يعرفها باسم الكاتدرائية، كما أنّ قربها من الكورنيش وشارع الشهيد العربي بن مهيدي، وقربها من المسرح الجهوي "عبد القادر علولة"، يجعل موقعها معلمًا يقصده السيّاح والمارّة وطلاب المدارس، وبعد تحويلها من كاتدرائية إلى مكتبة في عام 1984، أطلق عليها اسم الصحافي الراحل بختي بن عودة.
كنيسة أم مكتبة؟
إطلالتها على ساحة رحبة، يجتمع فيها المارّة وقراء الجرائد والطلبة، جعلها مكانًا يضج بالحركة، ونظرًا لاحتوائها على قاعة للمطالعة، أصبحت قبلة للطلاب والأساتذة والهاربين من ضجيج المدينة، ورغم كل هذا فإن هذا المعلم الذي ارتبط تشييده بالاستعمار الفرنسي في الفترة الممتدة من ( 1904 و1913 ) وتمّ تدشينه في 1918، كان مازال يعاني الإهمال واللامبالاة من مطلع الاستقلال وإلى غاية سنة 1984، حيث تمّ تحويل الكاتدرائية إلى مكتبة عامة في نهاية التسعينيات.
صورة الإهمال الذي تعانيه المعالم الأثرية اليوم، تتكرّر في عدة أماكن، وهو سلوك لا يعكس جدّية وزارة الثقافة بصورة عامة، لتطوير القطاع الثقافي والفني، سواء في المسرح أو السينما، أو في مجال الاهتمام بالتراث والمعالم الأثرية التي تتوارى بفعل الإهمال.
وبالإضافة إلى معالم كثيرة مشهورة في الجزائر، تبقى المكتبة العامة في وهران "الكاتدرائية" واحدة من الجواهر التي تفقد بريقها حتّى في عزّ نشاطها السنوي، ورغم أنها تحفة هندسية تمزج بين الفن الروماني والبيزنطي، فقد شيّدت في قلب وهران من قبل الإخوة بيري بالإسمنت المسلح والصخور الكبيرة مطلع القرن العشرين، وكان يقصدها آلاف المسيحيين في السابق، كما تبقى شاهدة على الاستعمار الفرنسي الذي حاول طمس هوية الجزائريين بتكريس الطابع المسيحي للمدن، إلى حدّ تحويل عدد من المساجد التاريخية إلى كنائس، كما هو حال مسجد كتشاوة في العاصمة الجزائرية، والذي يعود إلى عصر الدولة العثمانية.
معلَم مهمل
من لا يعرف تاريخ وقصة الكاتدرائية، يظن أنها كنيسة مغلقة، لعدم وجود لافتات تدل على أنّها فضاء مفتوح أمام الجمهور والطلبة والسياح باعتبارها معلمًا أثريًا عتيقًا يزيد عمره عن قرن. وخلال الجولة التي قادتنا إلى هذا المكان؛ لاحظنا أنّ الزوار يكتفون بمشاهدة هذا الصرح فقط من الخارج، والتقاط الصور أمام المدخل الرئيسي، الذي يتميّز بأقواسه الكبيرة وألوان متناسقة تزين واجهته.
تتوسّط قبّة الكاتدرائية الشبيهة إلى حدٍ ما بقباب المساجد، صومعتين شامختين مرصعتين بالقرميد، أمّا النوافذ الخشبية فزّينت بالصلبان المزخرفة. غير أن هذا البناء، لا يجد اهتمامًا من طرف قطاعات الدولة، إذ يجتاح هيكله الغبار والرطوبة، وتحاصر هيكله الأوساخ من كل جهة، فلا تمّ الاعتناء به كمعلم أثري يعتبر شاهدًا حضاريًا ودينيًا على عراقة مدينة وهران الملقّبة بـ"الباهية"، أو كمكتبة حديثة، تشهد تنظيم فعاليات متعدّدة كمعارض الكتاب والندوات الفكرية، وتعرف مرور شخصيات أدبية وسياسية جزائرية وأجنبية.
دعوات إلى الترميم
يشير أحد العاملين في المكتبة، أنّ المؤسسة تفتح أبوابها بشكل يومي من التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساء، يقصدها الزوار من طلبة وأستاذة وسيّاح بأعداد معتبرة، لكنّها تعاني بعض الإهمال بسبب فشل السلطات المحلية، مردفًا بالقول: "لم تسع سلطات محافظة وهران لترميمها بدليل أكوام الأوساخ المتراكمة في محيطها، ناهيك عن المشاهد المزرية داخل القاعة الكبيرة للمكتبة".
وأضاف المتحدث إلى "جيل": "الكثير من الزوار يجهلون مواعيد عمل المكتبة ظنًّا منهم أنّها كنيسة؟ لذلك تجدنا نستقبل عشرات الاستفسارات يوميًا حول عملها، وهل هي مكتبة أم لا، لاسيما إذا كان السائل من خارج من المدينة".
ويرى موظف آخر بالمكتبة في حديثه إلى "جيل" أنّ قاصدي المكتبة غير الطلبة والأستاذة المتعوّدين على المجيء إليها بغرض المطالعة أو إعارة الكتب، تشدّهم هندستها الفريدة وشكلها الخارجي الذي يزاوج بناؤه بين الفن المعماري الشرقي والغربي. مؤكّدًا أنّ فرنسا الاستعمارية قامت بتشييدها ليمارس المعمّرون شعائرهم المسيحية، لكن بعد انتشار مرض الطاعون في تلك الحقبة في وهران التي كانت تحت وطأة الاستعمار، اعتقد المسيحيون آنذاك، أنه يجب جمع التبرعات تحت راية الكاتدرائية حتى يزول الوباء.
جولة في الداخل
وفي جولة إلى داخل الكاتدرائية، تلفت نظر الزائر خمسة أبواب عملاقة تحرس المدخل الرئيسي، وحين تتجاوز الباب الرئيسي تشعر بهدوء غير عادي، تحت سقف عال جدًا يجعل النظر إليه طويلًا أمرًا متعبًا. طاولات خشبية للمطالعة، ممرّات الكنيسة في قاعة الصّلاة/ المطالعة لم تتغيّر، ورفوف جدارية تحتوي على مئات الكتب في مختلف التخصّصات، وتتوسط السقف ثريات نحاسية ضخمة، وفي مقدمة القاعة يوجد المجلس، والذي يسمى أيضا بـ"المذبح"، وكان يستعمل في الطقوس المسيحية حسب ما أكده عمّال المكتبة، لنحر القرابين.
وتزين الكتب التي تتجاوز المائة ألف عنوان رفوف المكتبة، ويبعث مشهد الطلبة والأساتذة وهم يطالعون كتابًا أو ينجزون فرضًا دراسيًا صورة أخرى لا تنحسر في كون المكان معلمًا دينيًا أو تاريخيا فحسب، وإنّما فضاء للقراءة والبحث والمطالعة.
سألنا الزائر "ياسين.م" عن الكاتدرائية وكيف يرى واقعها اليوم؟ فأجاب: "حقيقةً المكان يعجبني كثيرًا، فهو عتيق وأثري، لكن ما ينغّص ذوقي هو تلك الأوساخ التي تحاصره في الخارج"، ودعا ياسين السلطات العمومية إلى ضرورة العناية بهذا المعلم من خلال ترميمه وتنقية محيطه، مشيرًا أنّ هذا الفضاء إرث استعماري تحوّل اليوم إلى مكتبة ووجب المحافظة عليه، سواء من ناحية النظافة أو الترميم قبل اندثاره".
ولفت المتحدّث في السياق نفسه، إلى أنّ غياب مختصين في الترميم أسهم في إهمال العديد من المعالم الأثرية في ربوع الجزائر، ومنها مواقع أثرية في مدينة وهران، وأدّى إلى تشويه مناظر المعالم وروحها الجمالية.