06 نوفمبر 2024
كبارنا .. تاج رؤوسنا
تمرُّ أيام الأعياد، ونستذكر كبارنا الذين رحلوا، الذين صنعوا بهجة أعيادنا بحضورهم، وأقاموا سور حياتنا وأحكموه ببأسهم. قال الأقدمون، وعلَّمونا ذلك، وتربَّينا عليه؛ إن الكبار في السنّ هم تاج الرؤوس، ولهم الاحترام والتبجيل، وكلمتهم مسموعة، وهم الخير والبركة، في كلِّ بيت. وعلَّمونا أيضا أن من لا كبير له يجب أن يشتري واحدا. والمقصد بهذا المثل أن مشورة الكبير، ورأيه، دائما ما تكون هي الصواب، وأن الرجوع إلى حكمهم نجاة، ولاحظنا أن الناس، حتى عهد قريب، قد احتكموا لكبار القوم في جلسات التحكيم، حتى في أصعب المشكلات، ومنها القتل والثأر.
هؤلاء الكبار الأشداء ذوو البأس الذين فتحنا عيوننا عليهم يختلفون عن أولئك الكبار المنسيّين، في دور العجَزة والمُسنِّين، فالنظرة إلى الكبار الذين وضعناهم فوق الرؤوس خيالية؛ فقد نظرنا إليهم أنهم أقوياء، إلى درجةٍ لا تصدَّق، يملكون أجسامًا لا تشيخ، وذلك ربما يعود حقيقةً إلى نمط تغذيتهم في الأزمان الماضية، والذي يختلف عمّا نتغذّى عليه، من طعام مُهَرْمَن ومُسَرْطَن، بحِلية جميلة ومسمّيات عجيبة.
عاش جدِّي، رحمه الله، وكان من كبار العائلة، حتى تجاوز الخامسة والثمانين من عمره، وظلّ قويًّا، حتى آخر لحظات حياته، وكُنَّا كبارًا وصغارًا، أبناءً وأحفادًا، نرتجف لمجرّد سماع صوته المجلجل، والذي ينمُّ عن قوّته وصرامته في الحق، الذي لا يخشى فيه لومة لائم، ومات وكأنه ذاهبٌ إلى موعد؛ فلم يجزع، بل ظل يُلقي أوامره للصغير والكبير منَّا، ويحدِّد ويخطّط مراسم دفنه، وتشييعه، حسب الأصول.
تغيَّر الزمن، وأصبح كبار السن، في هذا الوقت، هم الحلْقة الضعيفة، فالطبُّ يخرج، كلَّ يوم؛ ليحذِّرنا من ضعف مناعتهم. ولا أذكر أن جدّي قد أُصيب بإنفلونزا مرّة في حياته، ويحذّرنا من أن عظامهم هشّة، ولا أذكر إلا قوّة ساعد جدّي، وهو يحرث مساحةً صغيرة من الأرض، حول بيتنا، وبأنه قطع جذع شجرة عتيقة، بضربة فأس واحدة، بعد أن عجز ثلاثة شبابٍ، من أحفاده، عن ترك أثر للفأس، فوق جذعها الهرم.
اليوم لم يعد الكبار تاج الرؤوس؛ فالكلّ يخاف منهم، لا عليهم، ونقلت لنا الأخبار، للأسف، وفي البلاد التي كنَّا نتوهّم أنها تُعنى بالمسنِّين، بل لديها منظومة حماية خاصة بهم؛ ما تعرّضوا له من إهمال، ومن تنمُّر أيضًا، وكأن جائحة كورونا قد جاءت لتكشف حقيقة هذا العالم الذي يضحِّي بكباره؛ من أجل أن ينقذ الصغار والشباب، وكأن هؤلاء الكبار ليسوا أصحاب الفضل، في وجود الآخرين، ووصول هؤلاء إلى ما هم عليه؛ من توفُّر متطلَّبات الحياة، إن لم يكن رفاهيتها.
في إسبانيا، مثلا، تمَّ العثور على مُسنِّين قضَوْا نحبهم، فوق أسرَّتهم، في بيوت العجزة، من دون أن يعثر عليهم أحد، وسمعنا عن أكثر من حادثة، عن أبناء رفضوا زيارة والدهم المسنّ، أو والدتهم في المشفى، في زيارةٍ أخيرة، وقرأنا كثيرا من التهكُّم والسخرية، عن كبار السنّ الذين شبعوا من الحياة، ويجب أن يُفسحوا المجال للشباب؛ لكي يحصلوا على الرعاية، في المستشفيات التي كشفت جائحة كورونا عوراتها.
سياسة الحكومات، في ظل أزمة كورونا، هي الاحتكام لمنطق المال، وأن المسنِّين أصبحوا عالة عليها، فهذه الحكومات هي التي لا تضع كبارها تاجًا على رؤوسها، وأصبح تفكيرها ينحصر في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما أن الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية تستغل التباعُد الاجتماعي الذي تعيشه الأُسَر، في الأساس، لتقرِّر التخلُّص من كبار السنّ، من دون أن يفتقدهم أحد. ومعظم كبار السن في هذه البلاد يعيشون في وحدة، بعد أن تركهم أبناؤهم، ولا يعرفون عنهم شيئًا، وربما أودعوهم بيوت المسنِّين، وتركوهم لأقدارهم، حتى جاءت جائحة كورونا، وأصبحوا هم الفئة التي يجري التضحية بها، أو تقديمها للموت، في الدرجة الأولى متذرعِّين بالمناعة الضعيفة لديهم، على الرغم من أن هناك حالات شفاء كثيرة سجِّلت لمسنِّين، إلى جانب حالات وفاة كثيرة سجِّلت لشباب، ومتوسِّطي العُمر، لعلهم يعون درساً صعباً من ذلك.
عاش جدِّي، رحمه الله، وكان من كبار العائلة، حتى تجاوز الخامسة والثمانين من عمره، وظلّ قويًّا، حتى آخر لحظات حياته، وكُنَّا كبارًا وصغارًا، أبناءً وأحفادًا، نرتجف لمجرّد سماع صوته المجلجل، والذي ينمُّ عن قوّته وصرامته في الحق، الذي لا يخشى فيه لومة لائم، ومات وكأنه ذاهبٌ إلى موعد؛ فلم يجزع، بل ظل يُلقي أوامره للصغير والكبير منَّا، ويحدِّد ويخطّط مراسم دفنه، وتشييعه، حسب الأصول.
تغيَّر الزمن، وأصبح كبار السن، في هذا الوقت، هم الحلْقة الضعيفة، فالطبُّ يخرج، كلَّ يوم؛ ليحذِّرنا من ضعف مناعتهم. ولا أذكر أن جدّي قد أُصيب بإنفلونزا مرّة في حياته، ويحذّرنا من أن عظامهم هشّة، ولا أذكر إلا قوّة ساعد جدّي، وهو يحرث مساحةً صغيرة من الأرض، حول بيتنا، وبأنه قطع جذع شجرة عتيقة، بضربة فأس واحدة، بعد أن عجز ثلاثة شبابٍ، من أحفاده، عن ترك أثر للفأس، فوق جذعها الهرم.
اليوم لم يعد الكبار تاج الرؤوس؛ فالكلّ يخاف منهم، لا عليهم، ونقلت لنا الأخبار، للأسف، وفي البلاد التي كنَّا نتوهّم أنها تُعنى بالمسنِّين، بل لديها منظومة حماية خاصة بهم؛ ما تعرّضوا له من إهمال، ومن تنمُّر أيضًا، وكأن جائحة كورونا قد جاءت لتكشف حقيقة هذا العالم الذي يضحِّي بكباره؛ من أجل أن ينقذ الصغار والشباب، وكأن هؤلاء الكبار ليسوا أصحاب الفضل، في وجود الآخرين، ووصول هؤلاء إلى ما هم عليه؛ من توفُّر متطلَّبات الحياة، إن لم يكن رفاهيتها.
في إسبانيا، مثلا، تمَّ العثور على مُسنِّين قضَوْا نحبهم، فوق أسرَّتهم، في بيوت العجزة، من دون أن يعثر عليهم أحد، وسمعنا عن أكثر من حادثة، عن أبناء رفضوا زيارة والدهم المسنّ، أو والدتهم في المشفى، في زيارةٍ أخيرة، وقرأنا كثيرا من التهكُّم والسخرية، عن كبار السنّ الذين شبعوا من الحياة، ويجب أن يُفسحوا المجال للشباب؛ لكي يحصلوا على الرعاية، في المستشفيات التي كشفت جائحة كورونا عوراتها.
سياسة الحكومات، في ظل أزمة كورونا، هي الاحتكام لمنطق المال، وأن المسنِّين أصبحوا عالة عليها، فهذه الحكومات هي التي لا تضع كبارها تاجًا على رؤوسها، وأصبح تفكيرها ينحصر في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما أن الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية تستغل التباعُد الاجتماعي الذي تعيشه الأُسَر، في الأساس، لتقرِّر التخلُّص من كبار السنّ، من دون أن يفتقدهم أحد. ومعظم كبار السن في هذه البلاد يعيشون في وحدة، بعد أن تركهم أبناؤهم، ولا يعرفون عنهم شيئًا، وربما أودعوهم بيوت المسنِّين، وتركوهم لأقدارهم، حتى جاءت جائحة كورونا، وأصبحوا هم الفئة التي يجري التضحية بها، أو تقديمها للموت، في الدرجة الأولى متذرعِّين بالمناعة الضعيفة لديهم، على الرغم من أن هناك حالات شفاء كثيرة سجِّلت لمسنِّين، إلى جانب حالات وفاة كثيرة سجِّلت لشباب، ومتوسِّطي العُمر، لعلهم يعون درساً صعباً من ذلك.